الخميس، 6 مارس 2008

الجنة المختصرة









في توشية أبي الخصيب وأسنانها المقتلعة وأحزان السدرة وهموم البمبر


" لأجلها يسير الدمع الراسخ "
-صلاح ستيتية-


أبو الخصيب - د.جمال حسين علي:


تصل الى أبي الخصيب بواسطة طرق ثلاثة ونهر. فإما أن تسلكه عبر 'المطيحة' أو تدوس جسر السندباد، أو تنثني بالتواءات 'مناوي باشا'، ورحلتك عبر النهر ستمنحك منصهرا لـ 'الجنة المختصرة'. ومن أي اختيار تتهاوى عليها، فستأخذك الأسماء المجهولة ومراقد الخيرين ومحاكاة سدرة 'برهاما' المنتصبة في مقبل 'عويسيان' كمرآة للذنوب لا يجرؤ زمن ولا حروب على اقتلاعها. وستجري أمامك العربات وباصات الخشب وحمير منفردة وجمهرة غدير وحدائق في بساتين وبساتين من الجري لا يخز فيها الغصن الزهرة ولا يرتطم الجذع بالجذع بتناسق أوراق تدق طبلا واحدا. هي أبو الخصيب، الكثيرة الجدوى وشمس العطاء والمخضبة بالمنح والفتيان الذين كان لديهم أجمعين مستقبلا وفيرا.برفقة النخلة والسدرة والمشحوف نتوانى في طور سنيها في هذه البلدة العجوز الشاحب حصنها القديم في شاخصة 'بريم ' تسمية خلدوا فيها والي الخليفة المنصور: مرزوق أبو الخصيب!يدرك من استطاع إليها سبيلا من الكويتيين، تفوق سحرها وجوها المنعش في سواحلها المطلة على شط العرب، فبنوا البيت تلو الآخر على طراز 'الفلل' الكويتية على شواطئ أبو الخصيب الملاصقة لشط العربِ ويضعون فيها عائلة خصيبية أصلية بمن فيها لترعاها وتحرسها وتلقح نخيلها وتشذب أغصانها وتزهر أورادهاِوكان تقليدا في ال 'ويك أند' رؤية قنوات من السيارات الجميلة تقف أمام كل 'فيللا' ساحلية وتغادرها قبل مغيب الجمعة من كل أسبوع.هكذا سارت الحياة الساحلية الخصيبية، وكان متعهدو الدور من الأمان بحيث لم يتكدر أي من الطرفين بسوء فهم واحد، لاسيما أن الخصيبيين والكويتيين يقتربون جدا من بعض حتى في اللهجة التي تكاد لا تفرقها بينهم.حدثت الحرب وتحولت هذه الجنائن الى حاجب الجبهة الأمامي، سكنها الجند وماتوا فيها وخربت الدار بما وهبت، لكن الأرض بقيت وكذلك النهر وهي مقومات الجنة. وفي كل الأحوال فان تلك الدور حتى بدون حرب، كانت بحاجة الى ملاحقة تطور العصر ومتطلباته ودشاته، فأغلبها مبني في الخمسينيات وفي النهاية كانت تحتاج الى تهديم وبناء أخرى.
أنهرها
الأنهر في أبي الخصيب لا تكون وحيدة، فدائما فيها ناس، صيادون وعابرون، فتية يسبحون وصبيات يتداركن الحر والغبار، قوارب تنقل البضائع والركاب الى انحاء البصرة، حيث ينتشر 28 نهرا على طريقها فقط البالغ 5 كيلومترات.السيل الجارف جعل نهر الراجي يعمر قرى كثيرة ويستضيف أحيانا حتى السفن الكبيرة، كما هي الحال بنهر السراجي الذي تستطيع الحشائش التي تغطيه الآن قراءة أمواجه المنسابة بلا توقف.هناك أنهار أبو مغيرة والمناوي واللبان ونهر خوز وتفرعات أنهر جيكور وباب سليمان التي تشبه أنهار 'الأخرس' و'القاووس' و'الأعوج' الذي ينقل المحتفلين بالربيع الى 'نهر خوز' و'البراضعية' و' حمدان' و'عائشة' و'الزهدي' و'جند'، ولا تزال أصوات ارتطام الماء بالحصى النهرية تصدر موسيقى النقود التي منحت نهر 'أبو الفلوس' تسميته.تتحاور أنهر أبو الخصيب مع أشجارها وتكسوها بحركة فراشات تنزلق على لوحتها، مطوحة بالقصص وخيوطها.
مراقدها
ما أن تعبر جسرا يكاد ينهار بك، حتى يطالعك مرقد لولي وأحد أخيار التاريخ، جائلة منائره بأعلام نحاسية تتطاير منها أوصال خضراء بمثابة عبارة الأشجان الرابطة عواطف الزوار بجرف الموتىِ للآن يخشى الناس من الحلف بمرقد 'أبو الجوزي' الذي أصبح عنوانا رسميا لبوابة البلدة وعلى حاله بقي مرقد سليمان الهاشمي، فيما تغطي حنة قديمة وأخرى طازجة جدران عباس بن مرداس.من بين ثنايا أزقة تهوى الانحناء ترمي الأبصار نحو مرقد السيدين رجب الرفاعي والرديني، وتواصل الحمامات السكن عند قبة عبد الرحمن بن عوف وباحة المقداد بن الأسود الفسيحة، حتى يتفجر النهار بمقطوعي سبيل وضحايا اللحظات المضروبة في الزمن الذي لا يملكون فيه لا الجوهر ولا القشور.
نخل المشاكل
هي مدينة دكتها القنابل ثماني سنوات، وقطع المدافعون عنها نخيلها وعبثوا بأزهارها وفواكهها وخضرتها.وربما تكون هذه الأسباب التي جعلت من أعضاء المجلس البلدي يعتبرون أن مدينتهم تعاني أكثر من مدن العراق قاطبة.
تجدر الإشارة الى أن المجلس البلدي في أبي الخصيب شكل في 3 أبريل 2003 أي قبل سقوط النظام بأقل من أسبوع وهو أول مجلس إداري يشكل في العراق الجديد وصدام ما زال موجودا.يفسرون معنى أن معاناتهم تفوق العراق كله بقولهم ان مدن العراق تنقطع فيها الكهرباء على سبيل المثال، لكن قرانا لا تصل إليها على الإطلاق وكذا الحال بالنسبة للمياه فلا تزال القرى تعيش وتغسل وتشرب من مياه الأنهر الملوثة.أما برامج الإعمار فقالوا انها لم تصل، فقد قامت منظمة إنسانية بتصليح محطة حمدان للمياه، وبالكاد تكفي تلك البلدة وقامت منظمة 'إنقاذ الطفولة' بترميم مشروع 'باب الطويل' ولكن بدون ماء، بينما محطة 'اللباني' التي تسقي أهالي مركز أبو الخصيب فعلى حالها لم يصلحها أحدِ والاعتماد على مياه شط العرب لكون منسوبه ارتفع (بعد سقوط النظام) محفوف بالمخاطر بسبب تلوثه بنفط المهربين.في أبي الخصيب وحدها 35 ميناء ومرسى غير شرعي يمارس من خلالها التهريب تحت مسميات مختلفة كتصليح السفن والصيد. ولم تصل الى أبي الخصيب مخططات وزارة الزراعة القاضية بشتل 'أمهات النخيل'، كما لم تصل الى المزارعين وحدات مكافحة الآفات الزراعية حيث تصيب آفة 'الحميرة' نخيل القرى قبل موسم الجنيِ ثمة مشاكل البطالة و 'المستوطنين' القادمين من الأهوار المجففة والجسور المحطمة وهروب الأطفال من المدارس لعمل ومساعدة عوائلهم الفقيرة والخطف والاغتيالات والفساد والمصادمات الطائفية.البضائع تخرج منها لتباع في كل أنحاء العراق عدا أبو الخصيب، التي غاب عنها حتى الصبور والزبيدي اللذين يصطادهما أبناؤها. لا مكتبات ولا إنترنت ولا أي ملعب للأطفال والحياة فيها مضجرة بالمكانس والمهافيف التي تبقت في سوقها.
عطور وطرشي
الآن فقط بدأت ورود الرزقي والفل الخصيبية الأصل تظهر مجددا، لتشجع على ظهور معامل صغيرة لصناعة العطور سرعان ما دخلت الى السوق العراقية كلها، لندرة هذا النوع من الزهور، ولكون رائحتها تبقى لفترة طويلة كحال العطور الجيدةِولأن أجود أنواع الخل، ذلك المصنوع من التمور، فقد اشتهر طرشي أبو الخصيب، لكونه 100 % طبيعيا ويحتوي، كخل وخضار بداخله، منتجات طبيعية وطازجة ولم تستخدم فيها أسمدة للخضار أو كيمياويات أخرى للخل، ناهيك عن الخبرة الطويلة التي يتمتع بها صناع الطرشي هناك، وفهمهم للأعشاب المضافة لكل نوع من أنواع الطرشي.
حلاوة نهر خوز
بدأت صناعتها عائلة واحدة تسكن قرية 'نهر خوز' في أواخر القرن الثامن عشر، وما أن سرق 'سر المهنة' حتى بات الكثيرون يصنعونها، الأمر الذي أدى الى ظهور السؤال الخاص بها: أصلية او تايوان ؟!لكن معامل حلاوة نهر خوز الأصلية معروفة للمختصين الذين يعرفون بأنها فقط تأتي من 'آل إبراهيم' الذين كانوا أول من صنع هذا النوع من الحلوى الشهيرة جدا في الكويت والخليج.سر إعدادها يتحمل بعض مقاييس محدودة جدا من 'الراشي والدبس' وأنواعها يتحكم بها أولاد إبراهيم مخترعها الأول مثل السكرية والراشية والجوزية والدهنية، وأوقات صناعتها تكون ما بعد جني التمر من يونيو حتى مدخل الشتاء. أما المقلدون فيصنعونها من التمر الحلاوي والساير ويضيفون السمسم إليها ويختلط دبسها بسمسمها ولا يكاد غير العارفين بأسرار الحلاوة التمييز بين الأصلي والتقليد، خاصة في أوقات رمضان التي تصبح فيها جزءا من متناول الناس.
سدر وبمبر وعنبة
ذكر القرآن الكريم أن ثمر السدرة من طعام أهل الجنة وتشتهر أبو الخصيب بها، فلثمرتها فوائد كثيرة للمعدة ويعتقدون أنها تعالج الإمساك ويغتسلون بأوراقها بدلا من الصابون!والنبق الذي تمنحه أنواع: زيتوني وتفاحي وبمباوي وملاسي (من غير نوى) وتم الآن عملية تركيب الشجرة في أبريل من كل عام (يقوم المحترفون بتركيب برعم سدرة تحمل أنواعا جيدة على أخرى بزراعة أغصانها فيها لتحسين النسل وإكثاره!)ِويستفيدون من فحلها بتقطيع أغصانه وجذعه وبيعه كحطب أو لصناعة مختلف الأدوات الخشبية منه، فخشب فحل السدر من الأنواع الجيدة التي يثبتون بها الأبواب والسقوف. وتخلط ثمرتها بالتوابل لينتج منها الطرشي ، كذلك الحال مع شجرة البمبر الذي يقتل الدود في الأمعاء و 'العنبة' التي تشبه المانجو بحجم البطيخة الصغيرة وتنضج ثمارها في يوليو من كل عام وتزدهر زراعتها حاليا لكون أبو الخصيب الموطن الرئيسي لها في كل العراق.وللبصريين معتقدات وطقوس ترتبط بهذه الأشجار، لاسيما السدرة، فلا يقطعونها من الجذر لأنها تجلب الشؤم ويطلونها بالحنة ويجتمعون حولها مرددين الأذكار بمصاحبة الشموع والبخور ولا أحد يمسك بطير يختار عشه على سدرة.