الأحد، 9 مارس 2008

بيك أب أسمه البهجة


نحو السليمانية صعودا الى جبال أزمر باتجاه الحدود الإيرانية. حملتنا نوايا نصفها جيوبوليتيكية ونصفها الآخر جيوعسكرية! وفي لحظة منفردة محجوزة للتفرغ بالتفكير فيما سيحصل، ومحاولة ربط الدقيقة بالأخرى، ومراقبة صخور الجبال وتفحص ذكرياتها وإسقاط النظر من فوق نحو ادعاءات الوديان بخضرة تسترعي الجذب، خطفتنا «وانيت» مسرعة لم يفكر مصمموها أنها ستحمل هذا القدر من الجمال عددا وعدة، نفّاذ لا يمكن عدم الاكتراث إليه، حفيف عار من تكسر أغصان الروعة. مشاعر فياضة تنغمس في رغبتي الجشعة لسبر أغوار هذا المسلك. جوقة أو كومة من فتيات يتطاير شعرهن ملتصقا بوجدان الريح وشبق العدسة، رعدة من تذبذبات عجيبة بين الصوت والفرح الرحب ومنافسة السعادة الأخاذة اللانهائية تأمرني باللجوء الى سر هذا التسلط والحاجة الى أعين إضافية للتعمق في ماهية المشهد. للدهشة التي لا يفصح عنها والبهاء المنصرم، لم يسمح الاندفاع لعدّ هذه البهجة فقد كان الخطاب واضحا : حلّة من فتيات مبتهجات تفطر أغانيهن ورقصاتهن وحدة القبج، الطائر الكردي الذي لا يضل أبدا والسارح المرح في غضون هذه الجبال التي منع فيها الصيد بأوامر بيئية عليا.هل أقول أنهن سرب من نحل، فراشات، هل أصفهن بحروف عربية، كردية، لاتينية، لا! فقد ضلّ اللسان دون تأنيب، لأنه العالم يتلألأ بتطاير خصلاتهن وتساقط فرحهن على ذؤابات المجرى العميق ليعيد للعالم هيبته ويعوض للسلام فخره الضائع. أتبعهن وحافظ على مسافة الشوق أيها الرفيق السائق.. هكذا تبعنا المشهد دون اعتراض : صعدنا أكثر من جبل وهبطنا دون شرفة.. وبقى الخمار يتطاير والأصابع تتدفق بالإيقاع والألسن بالشدو العذب والأكتاف بالتأرجح والأوساط بالتمايل، حتى تلك اللحظة التي لاحظت دهشتنا أصغرهن لترمي الجميع بإشارة الصورة المنعكسة وراء زجاجة الحياة المنطلقة خلفهن. التفتن بحركة غير متفق عليها لا تغيب عن ناظري ليجدن إصرار لعدسة لا تكل من حمل كل هذا الفرح.لم يختزلن أطوالهن أو يكفن عن الرقص لنظراتنا المتجسسة على صفائهن، بل العكس غير المتوقع حمى استرخائنا: علت قاماتهن وارتفع الغناء وبانت الثياب التي لم تكن ترى وانتفضت الأجساد بتلقائية.. وفي غور تلك الألفة والتصالح غير المعلن، عادت خضرة الروح للخروج من نطاق التحسس لتتدلى نحو ثيابهن المائجة، غير هيابة بالصخور الحمراء لنفق جبلي مفروض كالعدم. استمع لأصوات أو نغم أو ظل شعر لا تترك السكون بخير فاسبر الى غور تلك الحياة التي أحافظ عليها حتى هذه اللحظة. تداعبك الألحان لتسترجع كيانك العابر بالصدفة الى هذه الأرض المقررة وذيول الحقول التي ليس لها صاحب:
كردستان مرّي مسرعة فوق المروج
أنت الحياة التي عليّ أن أحياها
أيقظ الحفل الذي أحيته أجساد محصول نما بالفطرة حلاوة السفر والتراص العالق بآنية زهور عملاقة بحجم جبال أزمر: يلوحن إليك بخيوط أصابعهن أو أكفهن المحناة لكي تتلو معهن أنشودة الصبية التي أنجزت اكتمالها بانتظار أن تطرق الباب لتقول لك: تفضل!.