الأحد، 9 مارس 2008

الهروب الكبير من كردستان




كردستان - د.جمال حسين علي:


حين يتحول الاضطراب الى زوال و الانطلاق اسم والنظر ظلال والندوب اسوداد والرياح رعب والمطر صاعقة والشفقة بوح والآفاق تمرد، يمكنك تجلي عبور نهر الصاعدين من قلب المدن الأليفة الى غموض الجبال الموحشة. ثمة من نسى دمية تحت السريرِِ وثمار حان زهو قطافها، وعجوز دائمة الشكوى لا يقوى على إسكاتها حتى الكيماوي المعتق منذ زمن العنجهيةِ رحيل كأيام الغيمة الفقيرة التي أبعدت معها الفرح، كتلك الساعات المعذبة النازعة قشرة ما تبقى من رجاء. وما أن ينتهي الليل المتصور، ويحرق النهار وجه المدينة حتى ترى حلمك وقد سحقه الخوف، ذلك الذي يملك كل من داس هذه الأرض، عبأه ليكفيه لكل الحروب الغبية منها والذكية. طل الندى على المدينة الذاوية، النحيفة، الشاحبة، الخالية من صيحات ألفناها ِِ هي نفسها التي كانت ضاجة البارحة، بتنفسها الشيق ورؤوس أهلها وأقدامهم المتعبةِاختفت جوقة الفتيات اللواتي يعبرن خيمتك كضوء سيف، فهل بإمكانك التعود على غربة جديدة بعد المصالحة التي أجبرت الوطن على تقبلها؟ وهل تقبل بعد الآن أن يتبخر الهواء الذي تتنفسه أمامك كاليقين؟وهل ثمة الحد الأدنى من نزاهة الزمن عندما تعود الى الوطن لتتشبث به بأظافرك وأسنانك وراحتيك ، في هذه اللحظة التي ترجع إليه بالكامل، يتركك ويغادر!حتى وأنا على أرضك تغادر أيها الوطن فكن عاقلا .. هذه المرة.. كن عاقلا..عندما فاقت سواعد الثوار عام 1991 وخذلها الحلفاء الحاليون، لم يبق أمام الناس في كردستان سوى التوجه الى جبال الله الواسعة عند تخوم الوطن وما بعده، ليتنازل الآخرون بمنحهم قصعة قهر ورغيف يتطاير مع الأكف.وكان للهروب المليوني (91) ما يبرره، حيث كانت ذكرى حلبجة و70 قرية وبلدة في كردستان ضربت في الكيماوي ورشت عليها طائرات وزارة الزراعة مبيدات البشر. وهو السبب ذاته الذي لا يجرأ أحد هنا على تتبع أقوال المحللين السياسيين لكي يعانق أطفاله في متاحف حقوق الإنسان فيما بعد ضربة انتقامية لا يمكن أن يتكهن أحد ولا يريد أن يضع مصير أطفاله بيد أو ضمير أو نزوة.وهكذا غادر الناس بيوتهم التي انتظروا قرونا لكي تدفئهم وما أن بدا دفئها الأخضر يحزم رحاله إليهم، تكسر الأمل ليصرخ بهم النداء من جديد نحو الجبالِقال كل من تتبعنا هروبه البريء والحتمي وكل من ينتظر: تعودنا!
في الهجرة المليونية السابقة كان مسعود البرزاني مع الناس حاملا بندقية كأي بيشمرغه عاديِ يتجول بين بردهم وجوعهم ويرى بعينيه ويدفن بيديه الطفل تلو الآخر من البرد والجوعِ ومع ذلك عندما قرر من أجلهم الذهاب الى بغداد والتفاوض مع صدام لكي يعود الملايين الى بيوتهم افترشوا الطريق حتى يمنعوا سيارته للتقدم نحو بغدادِ لم يعترضوا على مقابلته لصدام فحسب، بل كانوا يخشون على حياته من غدرهِ ولم يكن أمام البرزاني الابن سوى السير قدما معتمدا على البديهية المقدرة 'لو كانت حياتي ثمنا لعودة الملايين، فلتكن'!يتذكر حتما مسعود البرزاني كل هذه الأسابيع العصيبة وهو يطمئن الناس عبر التلفزيون المحلي ويناشدهم التحلي بالصبر واجتناب القلقِ وعلى الرغم من أن كلماته قد تهدئ روع مليون، إلا أن مليونا آخر لا يثق بالكلمات ولا بنزوات صدام وشروره ِِ لهذا السبب تصبح الهجرة 'المليونية 2' لا مفر منها.
الهجرة الأفضل
غير أن الظروف الحالية تختلف بلا شك، فالناس هدئوا طوال السنوات الاثنتي عشرة الماضية (عدا سنتين مضطربتين لأسباب معروفة)، وهم هذه المرة لا يتوجهون الى المجهول، بل إلى أقارب لهم أو أي معارف، فحسب الجواب عن سؤالنا التقليدي: الى أين؟ فأن لكل عائلة في كردستان قريبا في قرية نائية، وحتى المقطوع سيجد له غرفة ما بطريقة ما أيضاِ كما أن المهاجرين هذه المرة لم يؤخذوا على حين غرة، فقد تابعوا عبر الفضائيات كل الألعاب الدبلوماسية والحرب النفسية والإعلامية للحرب القادمة وتهيأوا منذ فترة ولهم كما للبيت الأبيض ساعة الصفر للرحيلِ ويمكن اعتبار المؤتمر الصحفي للرباعي في قمة آزور موعدا لساعة الهجرة الجديدة.
لماذا؟
لا يعير الهاربون أي اهتمام لأي تصريح أو تحليل سياسيِ فلديهم خوف لا يستطيع أي كان انتزاعه حتى لو أغرقهم بالمحاضراتِ لذلك يحسبونها كونهم يعرفون حتى أدق تفاصيل القدرة الهجومية العراقيةِ يدركون أن للقوات العراقية صواريخ (مهما كانت مسمياتها) ولديه مدافع بعيدة المدى، وأهمها المدفع النمساوي الذي لو ضرب من التون كوبري حيث يتجحفل الجيش العراقي باتجاه كردستان لسقطت قذيفته في شقلاوةِ أي أن مداه يصل الى أربيل ومصيف صلاح الدين حيث القيادة السياسية والميدانية للكردِ وكذا الحال بالنسبة للسليمانية لو ضربتها المدفعية العراقية من جمجمال والحال نفسه بالنسبة لدهوك التي لا تبعد عنها قوات النظام أكثر من 18 كيلومترا، لا سيما أن أربيل تبعد عن شيروه حيث ترابط قوات النظام نحو 12 كيلومترا. باختصار، لو يقرر النظام ضرب كردستان بالمدفعية والصواريخ فهو قادر على إصابة كل المحافظات الرئيسية. وخشية الناس لا تنحصر في القصف التقليدي، بل القصف الشامل بالأسلحة البيولوجية والكيميائيةِ وهي التي لا يستطيع أي شخص هنا تفاديها.
الى أين؟
لا متسع للناس سوى طمأنة نفسهم بنفسهم ومغادرة المدن الرئيسية والتوجه الى المدن البعيدة مثل سوران وراوندوز ومرغه سور وغيرهاِ علما بأن لكل من هذه المدن مئات القرى الجبلية الصغيرة المتناثرة. وبالنسبة للغذاء فقد أرث الجبليون تراث التعايش لمدة طويلة في المغاور والكهوف ولشتاء كامل من الحصاد الى الحصاد باحتفاظهم بالأرزاق لمدة طويلة، بالإضافة الى تأمين أنفسهم بأرزاق جافة يمكن بواسطتها تحضير الوجبات الرئيسية، فمن الحنطة يمكنهم تأمين الخبز ومنها يستخرجون البرغل ويجمعون الطماطم لتحويله الى معجونِ ولديهم طريقة شعبية يحفظون بواسطتها اللحم أسمها 'القاورمة' بأخذ قارورة أو 'بستوك' ويغطون جوانبه بالدهن الحر ومن ثم يكبسون داخله اللحم المقلي كبساِ ويمكن لهذه القارورة الاحتفاظ باللحم بدون أن يصيبه شيء طوال فصلين.
بلاغ حزبي
تحدثت مع حزبيين مختلفين، والجميع أكدوا أنه صدر قرار من الحزب والدولة يمنع فيه أي مسؤول مغادرة المدينةِ وكنت مع أحد الوزراء وقال لي إن وزارته ستستمر بالعمل لأنها مسؤولة عن الجهد الهندسي وبناء المواقع والملاجئ وغيرهاِ كما أن الوزارة نفسها تنشئ حاليا معسكرا للاجئين الذين قد ينزحون من المناطق التي تسيطر عليها القوات العراقية الآن وتنتشر على مساحتين في وديان سوران وتتسع لمليون شخصِ وسيكون المعسكر مجهزا بربع مليون خيمة وكافة الأغطية التي يحتاجها هذا العدد، بالإضافة الى المواد الغذائية اللازمة والمرافق الصحية وغيرها.
زحام طبيعي
ولا يعتبر المسؤولون هنا الهجرة الحالية كارثية، بل العكس، يرون بأن الناس خبروا الانتقال وقت الضرورةِ فمثلا يقطن في أربيل وحدها 800 ألف شخصِ ولو تبقى منهم 80 ألفا، فهذا سيساعد في تقليل الخسائر الى حدها الأدنى في حالة حصول ضربة بأسلحة دمار شامل، وكذلك تسهيل الأمر على من يبقى لخدمةالمدينة حيث يكون العبء عليه أقل بكثير مما لو بقي العدد الأصلي من السكانِفمثلا، بدأت تتلاشى سلع ضرورية كانت قبل أيام في متناول اليد مثل الماء والبنزين والغاز والخبز.والغريب أن الدينار اختفى بدوره من السوق، كون 'بورصة كردستان' أغلقت دكانها ورحلتِ وكل الناس حولوا أموالهم دنانير لسبب غير معروف واحتفظوا بها.
شبح المدينة
كما لو كنت طافيا في شوارع عاصمة كردستان، يتلقفني الهواء الممسود بالغبار والمطر، تضاد لكنه حصل. ومفارقة أخرى هي أنني تعرفت على أسماء المدينة عندما خلت من المارةِ لعل مراقبتي الناس ألهتني عن تتبع أسماء الشوارع والساحاتِ وبغيابهم، لا يوجد شيء يكسر الوحدة سوى مراقبة اليافطات والصور والتنزه مع الحروف.
شوارع العصف
لا أحد يستطيع الجزم بالسبب الذي جعلهم يسمونه الشارع الستيني وآخر أكثر رونقا يطلقون عليه الثلاثيني، حتما ان الأمر لا يتعلق بالأعمارِ ومفهوم تسمية شارع الأطباء كونه لا يكاد يحمل إعلاناتهمِ ولأن شركة باتا افتتحت لها فرعا في العهد البائد في ذلك الشارع المتقاطع معه، فقد أصبح شارع باتا والغريب أن النظام غار من اسم باتا الذي يعتز به المواطنون العراقيون حتى الآن لكونه أفضلحذاء دخل العراق حتى الآن، لذلك لم يتوان الغيورون من تبديل اسمه ليصبح 7 نيسان ( يوم تأسيس حزب البعث) ومع ذلك لم يتنازل الناس عن تسمية شارعهم على الحذاء المحبب لهم ولم يجرؤ أحد على ذكر يوم تأسيس البعث. وهناك شارع سيروان المنزلق نحو طريق كركوك حيث ملعب كرة القدم السيطرة، بينما يسير شارع آزادي ( الحرية ) ليذكر الناس بأوائل المثقفين الكرد، حيث وزعت الأراضي المحيطة به للمعلمين في الستينات، وهو في شكله ثري وفي مضمونه فقير، لأن من يسكنه الآن أفقر البشر.
أحياء بوتينية وأخرى رحبة
وينتصب تمثال للشيخ محمد أقدم مناضل كردي بناه الطالبانيون عندما سيطروا على المدينة ممتطيا حصانا أشبه بحمار مسلولِ وأبقى الكرد تسميات مثل العدالة وشورش (الثورة) وعرب: وهذه محلة كان يقطنها العرب منذ القدم. أحياء فقيرة للغاية كتيراوه التي لا يعرف أحد ماذا تعني ولماذا سميت بهذا الاسم وكوران وبوتيناوه، التي أخذت هذا اللقب من 'البوتين' لأن الأمطار عندما تهطل في هذا الحي، تفجر البحيرات ولا يستطيع أحد الدخول الى هذا الحي بدون ارتداء البوتين!أما الأحياء الغنية، فجد 'نيو أربيل' و'دولاراوه' والتي يسكنها الأثرياء الجدد والمسؤولون وظهرت بعد الانتفاضة طبعا.
ملامسة تقريبية
مهما تجاهلك العدم في الشوارع والأحياء لا تشعر بعقوبة أن تكون وحيدا، فالعربات تتداخل في شكك لتعلمه الكد الجهيد كي لا يبتعد عن زينة المدينة المضببة.هولير يا أيتها المدينة الساكنة يا لزجاجتك المنتقاة وعشبك الذابل كضفاف ليللأجل وحشتك سهرت لأحرسك وأفاوض نداك المتأصل.