السبت، 8 مارس 2008

انهيار أنهار البصرة






في جريان فينسيا الأقاليم الاستوائية


" أنتم يا من بقيتم في مدن ماتت
أظهروا أخيرا رحمة بأنفسكم "
- بريخت -

البصرة - د.جمال حسين علي:


لا ينقضي يوم البصري، دون أن يعبر جسرا ونهرا.. ولولا النهر لما كانت البصرة.. بتواصل المعنى يكمن سر المدينة الأوحد: لا توجد بصرة بدون نهر!تولوا أمره وجعلوا من النهر كل شيء حي في المدينة المقبلة فقرت نوايا البصريين الأوائل، أولئك الذين مزجوا التراب والرمل بالنهر ليشيدوا أول القصور بعد اندثار حضارات وادي الرافدين وجملوها بأوراق الشجر وأسندوها بلحائها وجذوعها، في مسيرة بناء الامبراطورية التي ستجتاز الشمس الضوئية نفسها، وتنقلب على محورها لتستلهم الشروق والغياب على أرجائها.أدرك المؤمنون القادمون من الرمال العربية العظمى قبلنا بكثير من الدهور أن لا بصرة بلا نهر، فما هادنوا الصحراء.. نبشوها وحفروها على امتداد السنين، لتنفجر الأرض انهارا جددا، ولتولد معها البساتين وزهو النخلات الأولى التي دكت جذوعها في شمال الزبير.تصادفك الأنهار أينما حللت في المدينة، صنوفها 'الثلاثة الكبار' المعروفات بشط العرب والفرات ودجلة ونحو 600 نهر كبير تتفرع منها ومقبلا من الأهوار التي تنضم اليها 'هيدرولوجيا'، هاديا الى أكثر من 10 آلاف نهر فرعي وجدول ونهير وقناة.وفي زمانه عدها 'البلاذري' بحوالي 120 ألف نهر، درس وطمر وتوارى أغلبها بفعل سلوك الطبيعة مرة واهمال الانسان مرات وعدم درايته واهتمامه لإصغاء موجاتها وسحر فوائدها مرات ومرات.ولكثرة الأنهار فيها أطلق عليها الكلدانيون تسمية 'بصريا'، أي 'القنوات' كدلالة على وجود الكثير من الأنهر الصغيرة فيها منذ تلك الأزمنة. ولم تكتب صفحة واحدة أو كتاب أو مذكرات لرحالة أو ولاة أو جغرافيين ومؤرخين، دون التقدمة الحتميةلروح النص العالق بالمدينة: أنهارها.
المورد المتيسر
عاش البصريون على بركات الأنهر بموازاة ظرف قاس دبجه 'التصنيف المناخي' لها لوقوعها في منطقة صحراوية حارة لا يتجاوز معدل سقوط الأمطار على أراضيها 133 ملم في العام بتوزيع غير منتظم لا يكفي حاجاتها في ظل ارتفاع كبير في درجات الحرارة طوال أيام السنة حيث تختفي الغيوم نهائيا عن سماء البصرة ل 224 يوما في السنة.وتنحصر هنا أهمية منظومة الأنهار وشبكاتها في حياة الناس وزراعتهم والتي بدونها يصبح السكن فيها مستحيلا.
وما زالت أنهار البصرة مصارف الحياة ومورد الناس المتيسر مجانا بجريان المجرى القديم للفرات القادم الى المدينة من الناصرية بموازاة الضفة الشمالية لهور الحمار ملتقيا بدجلة في القرنة في توليفة أثيرية أنجبت شط العرب.وبحساب بسيط تمتلك البصرة 40 كيلومترا من الفرات و90 كيلومترا من دجلة وكل شط العرب البالغ طوله من القرنة حتى مصبه في الخليج 195 كيلومترا.هذه الكيلومترات واحدة من أسرار ثراء المدينة، أضف اليها القنوات والأنهر الكبيرة التي عددناها، والمصارف التي تبدأ في 'كرمة علي' و'الغميج' و'الشافي".وأكثرها هيبة وسعة قبل الوصول الى مركز البصرة نهر كرمة علي المتكون من التقاء نهري 'المسحب' و'الصلال' الممتدين الى عمق هور الحمار. وتزداد شبكة المياه فائدة وأهمية عندما يلتقي نهر كرمة علي بشط العرب عند جزيرة السندباد الساحرة الجمال.غير أن دجلة يفقد الكثير من مياهه قبل دخوله البصرة في الأهوار الوسطية والشرقية المعروفة ب 'هور الحويزة'.. وفي الوقت نفسه يسترد دجلة جزءا من مياهه الى البصرة عن طريق أنهار الخرص وأم الجري والكسارة والروطة والخفتيري ومن الوسط أنهار الهدامة والصريفة والسفحة وفوت وبريخ والهز، ليزيد عرض دجلة خمس مرات واصلا الى 160 مترا قرب القرنة.
شبه الجزيرة
كثرت الأنهار وملتقياتها، فلا يوجد نهر يضيع وحده في البصرة، جعل البصرة تبدو من الجو كأنها شبه جزيرة تلتف حولها الأنهار من كل الجهات ( شمالا نهر كرمة علي وغربا شط العرب وجنوبا نهر السراجي )، ناهيك عن اختراقات نهر الجبيلة والرباط والعشار في المركز وجنوبا الخورة والسراجي.
الأنهار الآن
تعاني أنهر البصرة كلها بما فيها شط العرب من التلوث، الذي تتوضح آثاره في نهاياتها وأكثرها في أنهار البصرة والعشار والرباط والخندك، ويمكن ملاحظة ذلك جليا من خلال الصور التي أخذناها لهذه الأنهر في أبريل الذي يعد شهرا للتصريف العالي، أي أفضل أيام السنة من حيث سريان المياه وكميتها وسرعتها في العام. ونذكر بأن هذه الأنهر وقنواتها وتفرعاتها كانت صافية عذبة صالحة للشرب، ولا يجري الحديث عن قرون ماضية، عندما كنا نصطاد السمك في شواطئ النهيرات والترع بالأيدي لهول كثرتها، وثمة من كان يصطادها بدشداشته بعد طيها قليلا في الماء.. بمعنى أن التلوث لم يكن موجودا لغاية مطلع السبعينات، حيث كانت عمليات كري وتنظيف الأنهر الفرعية تجري يوميا على مدار العام، وكذا الحال بالنسبة للأنهر الكبرى.
مسببات
بالدرجة الأولى الاهمال وجهل حكام المدينة المعينين من بدو تكريت بطبيعة البصرة وأعراض أنهرهاِ لذلك عرف البصريون لأول مرة أن أنهرهم تحولت الى مجرى للمياه الثقيلة الخارجة من مساكنهمِ زد عليها أتربة ومخلفات الشوارع التي تجلبها على النهر مياه الأمطا،ر التي لم يفكر احد في بناء شبكة لتصريفها، واستسلموا لواقع الطبيعة وتصريف شؤونها باللجوء المنطقي للأنهارِ وما أن ازدادت المناطق الصناعية والمصانع بالقرب من الأنهار، حتى شوهدت فيها الاطارات والزيوت والمعادن وقطع السكراب فكانت تفرعات نهر الخندك في الداكير والسيمر على نهر العشار واحدة من أول مناظر التلوث التي قدر لأنهار البصرة تحملها الى يومناِوما تلقيه مصانع البتروكيمياويات والأسمدة في أبي الخصيب والورق في القرنة على شط العرب والطحين في الطويسة على نهر الرباط، ومعمل الألبان على نهر الجبيلة ومعملي الثلج والطحين على نهر الخورة في المطيحة ومصنع البيبسي، ومصفى المفتية، ونحو 170 مصنعا متوسطا في البصرة تلقي نفاياتها كلها في الأنهر! وهناك عوادم الزوارق والبواخر التي تدخل الأنهر بسبب المد والجزر الذي يصيب شط العرب مرتين كل 24 ساعةِ واذ كانت البصرة تستقبل سنويا ألف باخرة كبيرة قبل الحروب المعروفة، فان آلاف الزوارق ذات المحركات تتنقل في أنهرها يوميا.الثروة العبء اضافة الى عدم كريها لأكثر من ثلاثين عاما من المواد العضوية وغير العضوية، لم يبن أحد ضفافها، فزحفت اليها التربة والرواسب الطينية التي كانت تقذف بالفسفور والمعادن الثقيلة الى المياه الخالية من الأوكسجين المذاب (الذي يعتبر عماد الحياة في المياه )، الأمر الذي خدم نمو الطحالب والأشنات والأعشاب موزعا البكتريا والروائح الكريهة محولة تلك الأنهر الصافية الى مجرد برك للجيفة، خالية من الأسماك والأحياء النهرية الأخرى.. الموت الجماعي لأنهر البصرة قتل معه الاصطياد والتنزه وحول الأنهر من ثروة هائلة الى عبء أضاع على المدينة فرصة استغلالها .. ولو للسياحة.
اتقاء ما حصل
أكثر المدن في التاريخ التي أضاعت أنهارها هي البصرةِ فقد اندرس فيها نهر الزبير الكبير الذي بنيت بفضلهِ ولا يوجد أثر لأنهار كالأبله وأبي الأسد والمبارك وتتلاشى بالتدريج أنهار البصرة والمعقل وأبي الخصيب، و'بويب' الذي أدخله السياب الى موسوعة الأنهر الأسطورية يمكن للمرء القفز من خلاله وكذا الحال لأنهر 'حبابه' و'نهر خوز' و'باب سليمان' و'حمدان' ،، وحين تنازلت المدينة عن أنهرها، فقدت السمكة والطير والمرسى والهواء اللطيف وأثقلها 'العجاج' ورياح السموم والغبار، فيما كانت المقاهي ومطاعم الأنهر، فواصل الشهيق الذي يعم رئة المدينة بالسلوى ويخلف في كل خطوة شجيرة وموعدا وتألقا مزركشا لجري الماء وتلاطمه مع صخور غمرته بممالك السمك والحوريات، والأنهار البصرية منحت أسماءها للأحياء وحين يسأل العالم والضابط والمهندس والمجرم عن مسقط رأسه يذكر اسم النهر الذي يمر بحيهم، حتى صارت الأنهر مدنا وتواريخ وجناسي وعناوين تسطر بالجوازات. فقد أبناء الأنهار تمائمهم وصرة النذر المرمية في مطلع الجسر الأول المقبل نحو الدار التي أصابها الشؤم، وذلك الصباح الذي تستيقظ فيه المدينة على رضيع جديد يتلوى بقماطه عند الجرف، بجسده المعزول النامي توا من ازدراء العيون التي تبدأ من هذه اللحظة تسويق اسم وتاريخ جديد له ونعته للنهر بعد أن أسقط عنه الأبوان سيماءه، محملين اياه اسم النهر. وحين خرجت الزوارق من بطن البصرة، أصابها المغص وأعيتها العربات وما أن توانت في النهر الأول ضيعت المرسى الأخير.
حلول الإنقاذ
ينبغي تخصيص جزء من موارد البصرة لانقاذ أنهرها بخطة يمكن أن تعطى لشركات متخصصة تربط أنهرها الستة الرئيسية المذكورة ببعضها وانشاء بوابات تستغل مياه المد ولا تسمح له بالعودة الى شط العرب أثناء الجزر بآلية معروفة تسمح للمياه بدخول الأنهر الفرعية وتمنع خروجها منها، وستسمح هذه الخطة بتطوير الحدائق المحيطة بالأنهار، وان اتخذت شكلا طوليا بمحاذاتهاِ وسيساعد انتشار المناطق الخضراء بالقرب من الأنهار، علاوة على فوائده الكثيرة، أهمية علمية تنحصر في زيادة كمية الأوكسجين الذي سينقي جو المدينة ويقضي على التلوثِ وسيتحسن صرف المياه وكذلك نوعية التربة ورذاذ الأيام وخامات الناس.