الأحد، 9 مارس 2008

ملايين القلوب ترتجف بأمل عودة ضحايا الأنفال




من يستطيع ضخ الحب في قلوب المنتظرين؟


كردستان - د.جمال حسين علي:


موفد «القبس» الى كردستان د. جمال حسين علي :
بيوتهم ليست منعزلة أو منخرطة من جلد المدن، لكنهم تعودوا على مشاطرة الأغراب أحزانهم. وبمهل يدب الصباح ملطفا الأزقة المنقرة بالماضي والرياح التي تبعثر الأبواب لتمنح الفؤاد دقات مؤانسة؛ علهم أتوا، في ظهيرة أو أفق معتم.. تترنح الأبواب بفضل الرغبة - الأمل، لعله عصفور أو أكف متهاوية: هم أطفالك قد كبروا، أنت الغنيمة والحضور، اليقين الذي لا ينقطع، غباري وعندليبي والنسمة التي تبقت في الروح. في ظهيرة لو حضرت لها كل الاضطراب المتاح، لما ناولتك أقساطا من الأحزان المتوالدة، ولما فسرت إخفاق الضمير ولا صخب المرارة. كيف ستنسق كل هذه القصص التي ان نزلت واحدة منها في صدر نشرة أخبار، لصدعت العالم ومن لم يجد عسرا في مرآه. هي حكاية واحدة لو تلم أقطابها: يحاصر «الجيش الرابع في العالم» قرية ما، يقصفها بكل ما لديه من وسائل ومن ثم ينتزع من بقي فيها من كائنات حية لسوقها الى مصير مجهول. لا متسع للهرب حتى لو امتلكت كل الزعانف والأجنحة. نسطر فيما يلي، حكايات الرعب وبؤر الخوف، عن أولئك الذين ما ابتدعوا القصص، بل حلت عليهم كغمامات لا تحصى.. كم من الكراسات والمنابر تحتاج لتروي أصلها وفصلها، مكسوة بحفيف الألم المهان الذي احتفظت كل سحابة وحجارة وبرق ووهج شمس باللغة الغاضبة، عن تلك اللحظات الغادرة والتراب الذي تعذب بحمل الابتكار الفظ للشعور. فيا أيتها القراءة، افرضي كتابة بلا بداية ونهاية، عن العلة والجمر الذي يأبه النار، كبرياء الرمل ومهر النبات. باسم العذاب والألم والأمل الذي عمر أرواح قلوبهم وحدهم التي ظلت الأبجدية وتنازلت عن وداع حجارة الأجساد الراحلة. هم بلا أدنى شك ولا شفقة أو ميقات، كما الزمان العابث بالأقدار: أيتام وأرامل ضحايا الأنفال.

عشت أكثر من عشرين سنة أيضا بانتظار أن يطرق علينا الباب ليقول: من يكون.. أنا طبعا! ولمعرفتي قسوة طرق أبواب المنتظرين، تنازلت عن فضول المهنة لغيري واستعرت يديه لأطرق بها الأبواب التي لم تتوان من احتضاننا مع الغبار والقيظ. وقبل توجيه السؤال نسمع الحكاية من نهايتها: عدنا من الحقل بعد مغيب الشمس ولم نجد أحدا في القرية. أخذوا كل من فيها، أطفالا ونساء، شيوخا ورجالا، حتى الحيوانات. وهكذا نحن على هذه الحال طوال سنين. لم يكن أحد منهم بشمركة..، لا نعرف لماذا أخذوهم وماذا حل بهم. التفوا حولنا وغطونا بالألفة أكثر ما استطعنا منحهم إياها. كان الصبية يهرعون لجلب الماء البارد، ويبدو ان شكلنا في ذلك النهار الحار أوحى بذلك، أو هي الضيافة لم تطأ أقدامه عتبة بيوتهم. زحفت امرأة في الخمسين متعالية على تعبها لتنظر إلينا وقد أرخت رأسها على أحد الجدران. لم تعلق بشيء، فقد ملت من إعادة حكايتها أو ربما تجد صعوبة في روايتها أو تذكرها. تطوع شيخ من العائلة بسردها: أخذوا زوجها وأولادها وبناتها الصغار. وكل يوم تعد أعمارهم كي لا تنسى. ولا تكف عن الترديد: لماذا لم يأخذوني معهم؟. كل ما في الأمر، أن عملية خطف الناس تمت بفوضى، وهناك من اختبأ في مكان ما ولم يصادفوه أمامهم، وإن نجا بجلده، فقد كتب عليه أن يعيش المحنة ويسطرها كما تفعل هذه المرأة. في دار أخرى، أطلت عجوز حقيقية رافعة ثلاثة أصابع، تدرك أننا لا نفهم الكردية، استمرت بإشارتها وتبين أنها كانت تقول: أولادي الثلاثة أخذوهم.. كل ما لدي في هذه الدنيا. كانت أصلا أرملة حرب، وما أن حلت الأنفال بها حتى أضيف لها لقب مؤلم جديد.
حكايات العائدين
روى العائدون من المحرقة وأغلبهم من النساء وبعض الشيوخ قصص احتجاز الآلاف في نقرة السلمان والطوابير الطويلة للرجال الذين كان يلقى بهم في حفر كبيرة لدفنهم أحياء. وقبل عمليات الدفن الجماعية لا يمنح المعتقلون غير صمونة يابسة في اليوم مع ماء مالح. بقوا على هذه الحال أكثر من ستة أشهر قبل إطلاق سراح المسنين الذين حملوا هذه الشهادات، وكان عددهم قليلا جدا قياسا للعدد الهائل من المعتقلين، حيث عاد الى السليمانية أربعة مسنين فقط من بين كل الرجال الذين اعتقلوا. يقول أحدهم انه تم اعتقال ابنه وزوجته وثمانية أطفال ولم يعد أحد منهم حتى الآن. يؤكد الشيخ كيف كانت الجثث تترك في العراء ليرى المعتقلون كيف تنهشها الكلاب.
مرح الأرامل
قلت: هل كل النساء هنا أرامل الأنفال؟ ولمزيد من الوجع كانت الإجابة بنعم. كان السؤال محققا بعد توقفنا عند مجموعة من النسوة كن يجلسن على عتبة أحد البيوت. من العسير أن تجري حوارا مع هذا الكم من الأرامل دفعة واحدة. تمعنت في ملامحهن، يقينا كانت هذه الملامح تخفي جمالا منحسرا، يافعا، لم تمسده كف حانية. ومع تحديق أكثر عمقا، تلمس في كل تجعيدة انفطاراً في القلب وآهة مستبدة. ومن الواضح جدا أن هذه المجموعة كن من العرسان الجدد قبل وقوع الأنفال. شعرت بأن من الحماقة استدراجهن لقص الحكاية الواحدة والمعروفة باستبدال الحوار الكئيب بآخر أكثر لمعانا استطاع تجفيف القسوة في عيونهن وإظهار ما تيسر لديهن من مرح كن بأمس الحاجة إليه الآن وفي أي وقت.
كيف بدأت المأساة؟
قرر «مجلس قيادة الثورة» في 29 مارس 1987 تعيين علي حسن المجيد حاكما لكردستان (أسموه أمين سر مكتب تنظيم الشمال لحزب البعث). وحسب القرار المرقم 160 منحت له صلاحيات مطلقة وأنيطت به قيادة 4 فيالق من القوات المرابطة في المنطقة والتي تشكل 40% من الجيش العراقي المتكون من 10 فيالق. واعتبر مجلس قيادة الثورة «قرارات الرفيق المجيد إلزامية لجميع مؤسسات الدولة العسكرية والأمنية والمدنية وعليها جميعا تنفيذها بما في ذلك المسائل الداخلة في نطاق صلاحيات مجلس الأمن القومي ولجنة شؤون الشمال». وفي الحقيقة كانت هذه الصلاحيات يتمتع بها صدام حسين فقط.
أسلوب إسرائيلي وأكثر
أدخل علي الكيماوي الأسلوب الإسرائيلي، بل زاد عليه كثيرا، في التعامل مع من كان يطلق عليهم «المخربيـن» (تماما كما تطلق إسرائيل هذه الصفات على الفدائيين الفلسطينيين قبل اختراع مصطلح الإرهابيين). وكانت أغلب توجيهاته تبدأ بالعبارة التي حفظها من كان يعمل بمعيته: محو كل القرى المتعاونة مع المخربين. وكان هذا أول إنذار يطلقه في ندوة خاصة بعد عشرة أيام من استلامه منصبه. ولم ينتظر علي الكيماوي كثيرا حيث باشر في تنفيذ تهديداته بعد أسبوعين مفتتحا الصفحة الأكثر مأساوية في تاريخ المنطقة والمعروفة باسم حملات الأنفال في 21 أبريل 1987. وكان هدف قيادة بغداد من هذه الحملة إزالة كل مظاهر الحياة في كردستان وزرعها بالربايا والجنود. ونفذت العملية من قبل قوات الفيلقين الأول والخامس في كركوك وأربيل وقوات منتخبة من الحرس الجمهوري والقوات الخاصة والمغاوير والطوارئ وقوات من الجيش الشعبي وأفواج ما يسمى بالدفاع الوطني. واستخدمت هذه القوات كل ما بحوزة الجيش من وسائل وأسلحة ومعدات. والملفت للنظر، أن القيادة العراقية لم تخف هذه العملية كما كانت تفعل في كردستان من قبل، بل أعلنتها عبر وسائل إعلامها وثبتت مجرياتها بواسطة بياناتها الرسمية ،وتحتفل كل عام بذكراها سيئة الصيت وتطلق اسمها على مؤسسات ومشروعات ومدارس وغيرها. ولأنها كانت علنية، فقد سلم الكرد منظمات حقوق الإنسان أكثر من 14 طناً من الوثائق التي تدين النظام والخاصة بهذه المجزرة ويحتفظ بها الآن في الكونغرس.
ماذا فعلوا؟
خلال العامين اللذين حكم فيهما علي المجيد كردستان (من 29 مارس 1987 ولغاية 15 أبريل 1989) اتبع الأسلوب التالي في حملته: الإعدامات الجماعية، خطف الناس والاعتقالات بالجملة، التهجير القسري، استخدام الأسلحة الكيميائية، تدمير القرى ومحوها كما وعد من الأرض وكذلك تدمير كل ما يستخدمه الأنسان من آبار وينابيع ومحطات كهرباء ومؤسسات أخرى حتى المدارس وإلغاء البنية التحتية للريف، نهب الممتلكات وغيرها من الأساليب.
أنفالات «المجيد»
حسب ترتيب النظام، هناك ثماني مراحل لعمليات الأنفال بدأت الأولى في 17 فبراير 1988 بهجوم كبير على دوكان وسرجنار وسرطلو وبرطلو وتتضمن هذه المرحلة قصف مدينة حلبجة والقرى المجاورة لها بالكيميائي. والأنفال الثانية بدأت في 22 مارس ضد مناطق قرداغ ودربندخان و بازيان والثالثة في 7 أبريل حصدت منطقة كرميان في كركوك ومناطق جمجمال وسنكاو وقادر كرم والدوز وكفري وكلار وبيباز وتيلكو وتعتبر الأكثر قسوة حيث فقد فيها نحو 150 ألفا من مجموع 182 ألفاً فقدوا في كل مراحل الأنفال. ومن الواضح أن التركيز على كركوك جلي ولا يحتاج الى تحليل. وكانت الأنفال الرابعة في حوض الزاب الصغير ضد مناطق أغجلر وجهمي رزان وناو شوان وكويسنجق في 20 أبريل وانتهت في 5 مايو والمراحل الخامسة والسادسة والسابعة بدأت في 15 مايو واستمرت حتى 7 يوليو في أربيل في المحور الممتد عبر مرتفعات بيرمام باتجاه شقلاوة وحرير وراوندوز. أما ختام الأنفال فكان بعد قبول إيران وقف إطلاق النار وتفرغ القوات العراقية لحرق ما لم يتسن لها حرقه في بادينان وبدأت في 25 أغسطس بقصف منطقة زيوشكان بالأسلحة الكيميائية وانتهت في 6 سبتمبر عند محور زاخو - الشيخان - العمادية - دهوك بتفريغها كليا من السكان.
الضحايا
أسفرت المراحل الثماني للأنفال عن قتل أكثر من ربع مليون شخص واعتقال 182 ألفا فقدت آثارهم حتى الآن بالإضافة الى 8 آلاف برزاني اعتقلوا في مجمع قوشتبة في أربيل التي أسكنهم النظام فيها عنوة بعد ترحيلهم من منطقة برزان. ولا يعرف أحد بالضبط مصير المفقودين الـ 190 ألفا، غير أن تقارير مختلفة أشارت الى دفنهم في مقابر جماعية في صحراء عرعر والرمادي والسماوة والموصل وقرب الحدود الأردنية.
ضرب الكيميائي
ضرب النظام 49 قرية كردية بالسلاح الكيميائي بعد مجزرة حلبجة وبعد انتهاء الحرب العراقية - الإيرانية. حصل ذلك في 25 أغسطس 1988 في القرى التي نذكر منها: زيو شكان، برجيني، تلاكرو، سبينداري، بركظري، بانيي، بالوكا، كواني، بلوني، ميزي، باروكا، كفري، ميركتى، هفنتكا، بيروزا، ديرشى، مزى، كفنمزى، سبيندارا خلفو، كيركاشيك، كركوز، كوهرز، بلوتي، كوبزي، زيوكا شيخا، ساركى، ردينيا، شيران، إكمالة، سباري، نافوكى، سيدرا، بروفكر، تيكا، دركلي، زينافا، رزهوا، مريني، كانيا باسكا، صوريا، بي أركي، بابياكي، هشكاو، شيخان، برى كاره، وري، كلناسكي وكوريمي. وأوردت بعض المصادر ان النظام ضرب بالكيميائي 70 قرية كردية.
الـجريمة العلنية
هذه إحصائية سريعة فحسب لحدث علني وليس سريا. لما جرى في دنيا كردستان وحظها ورسم خلجاتها حتى اللحظة. ليس جرحا واحدا ليندمل، بل سرقة نور الحياة من الناس.. الأبناء والأزواج والأمل النفيس. للعابر الجوال الطارئ، بقايا دموع لم تجف وكأنها جديرة بأن تحمل بجلال. كل شيء جرى علنا ولا يحتاج الأمر الى أطنان من الوثائق لدعم القاضي الأممي. فالأرامل والأيتام يتناولون أيامهم وحيدين، تستعاد تعاستهم كدورة النهار والأيام، غائصين بتردد الضوء والصمت والظلام والصخب. غير أن قمع المغالاة يكمن في أن كل شيء جرى علنا.. وتسابق الجميع في إعلان بهجة الظفر علنا، ارتكبوا الجريمة واحتفلوا بها.. علنا!