السبت، 8 مارس 2008

الأماكن الممزقة








في تشطيب المعالم الممحوة والمندثرة و الأماكن الممزقة واستنشاق حسرة المدينة


" ما أقوله حقيقة
فكل كلمة تقول منطق القصيدة "
- أولفيدو غارثيا فالديس -


البصرة - د.جمال حسين علي:


لا نستطيع الحديث عن البصرة الراهنة دون تقمص معالمها التي انفردت بها، كثقل لابد أن نلقيه عن ظهر الحكي وعاتق الكلمة، كبيان مفعول وتبيان متشابك، قاموسه المدينة التي قصموا ظهرها وأزالوا رقبتها دون ان تفارقها الحياة. والبصرة دون تفردها، معوقة، فاقدة الخلان محملقة بأفق غريب عليها، وبلا مراجعة وتعريف وفيض وأسماء، لن يوخز الكلام عن البصرة حقيقتها الحالية، فلنعتبرها 'وثبة' لقلم سنت حروفه الأولى فيها، مغمسا بذلك القدر الذي كتب على المدينة أن تراه، ملوثابالرمل والغبار متضرعا بالأمل. ومعالم البصرة ليست أمكنة، بل مداخلها ورشاقتها وخلدها وغرها وغرورها، تدبير المدينة وطبائعها ومسلك أقوامها، ما هو شائع ونادر في زمانها وإمتاعها، فليس لمعالمها شبيه لا في العراق ولا في مثيلاتها الخليجيات، فمشهدها جار وتأويلها سحر وتقلبات مضيها ترضع التقليد وتزهر حداثة وبضراوة دوما، كانت البصرة تزخر بالجديد وبالإفلات من العادي والفرار من السكون.. فلنسترجع ما كانت عليه وما غدت، فبدون هذا المدخل، لا يمكن تصور وجعها ولا تنشيف عرقها وتضميد جراحها.
أمنا البصرة
للبصرة غريزة أمومة مع أبنائها وتعرفهم عن بعد وتشم رائحتهم مهما ابتعدوا عنها دهورا ودهوراِ وكما الأم تماما يحملها البصريون ضميرا وأمرا منفذا بلا حجاب أو حجج وتمهيدات ومهما بلغت بها الخطوب وكثرت تجاعيدها وهرم صوتها واغبرت عيناها تعبر بأسئلتها نحوك: لماذا لم تر الساعة ولا الجسر ولا تجمعات المتناقشين والمتنزهين والضائعين والمطربين الجوالين وكازينوهات الكورنيش والبحارة وميدان الدواليب وغيرها.. وغيرها..
وفي أول حوار مع رجل بعمرنا، تأكدنا بأن اندثار المعالم ليس من اكتشافنا، فما أن سألته عن 'ألبان البجاري' قال بشكل حاسم: أوه.. أنت بصري أصيل وقديم، راح مع أهله. ويبدو أن أشياء كثيرة راحت مع أهلها ورحلت مع زمانها، لابد من استرجاعها كتحية ينبغي تقديمها لتلك السنين وبراءة المدينة.
الكسلة
نبدأ بها، لكونها أكبر وأمرح كرنفال شعبي ابتدعته البصرة أيام نوروز التي تتدفق خطانا فيه ضارعة تراص البصرة وفيئها المبعثرِ ولا ينافسها في هذا الفرح أي مدينة في العراق والإقليم، ناهيك عن العالم برمته، فالبصريون يخرجون لثلاثة أيام عن بكرة مدينتهم ليسكنوا على شواطئ شط العرب في الجهة المعروفة بكورنيشالعشار حتى السراجيِ هناك يفطرون ويتغدون ويتعشون، يرقصون ويغنون، ومن الصعب أن تجد مترا مربعا خاليا من البهجة وحركات الناس. وكان بحارة البواخر والسفن، التي أسعفها الحظ ان يكون دورها في التوجه الى ميناء المعقل في العشرةالأواخر من مارس لتفرغ حمولتها، من كل القوميات والأجناس والشركات العالمية، يساهمون في فتح أبواب جديدة للفرح. هذه أخلاق وأعراف البحارة، فلا يمرحون في مدينة يضربها الحداد والأمراض والكوارث، بل يشاركون من على اليابسة ويتقاسمون وإياه الألم والزهو على السواء، وحالهم كالأمواج دوما على وشك الرحيل. وكل باخرة كانت تقدم لأهل البصرة أيام 'الكسلة' ما تيسر لها من إبداعات: الألعاب النارية على اختلافبهجتها، إنارة السماء بمختلف أنواعها وعزف الموسيقى، وحتى أبواقها المعروفة، كانت أجمل معزوفة يسمعها البصريِ والكثير جدا من الطواقم كانوا يستضيفون الناس بالآلاف على متن البواخر لينزهوهم في شط العرب ويفتحون لهم كل خزائنهم من أكل وشرب. كانت 'الكسلة' عيدا حقيقيا لأي بصري لا يضاهيه أي فرح ومن الصعب جدا العثور على شخص غير سعيد في تلك الأيام. وأجمل ما في 'الكسلة' انها كرنفال حقيقي، خال من الجمهور، فالكل مشارك فيه، لحظاته دائبة التغيير ومهما كانت زوارق النهر متآكلة، فركابها يزيدون من ألوانها وبريقها ..
أنها كانت فعلا خروجا جماعيا الى النور. لا يعرف من يسكن البصرة الآن وعمره أقل من ثلاثين سنة مؤلمة، عم نتحدث!
مخيمات الأنس
ما أن ينقضي العصر، من مارس حتى بلوغ الشتاء، يتدفق البصريون بكل ما أوتوا من وسائل نقل وخيول وحمير الى منطقة الأثل (منطقة صحراوية تكثر فيها الأشجار البرية بما تشبه الغابات في الصحراء).يخيمون هناك لعدة ليال من 'الأثل' حتى 'جبل سنام' ووصولا الى البحر، كان منظر الخيام الملتوية كقنوات داكنة تصب في البحر ليس له مثيل في الإقليم كله وعلم البصريون الآخرين، كيفية الابتهاج والرفقة الحسنة.. حاليا، المخيمات للمشردين ومن لا مأوى لهم وللطم والبكاء وتقبل العزاء تلو العزاء.
سينمات الصيف
حسبناها بالذاكرة 17 سينما صيفية في البصرة.. كانت الفتيات يرتدين فيها أجمل من ممثلات هوليود! مقسمة الى أربعة أقسام طبقية، القريب من الشاشة كنا نتردد عليه بالطبع ويسمى 'أبوالأربعين' (ترجمتها: قيمة تذكرته 40 فلسا لا غير ولا توجد فيه مقاعد بل يكتفون بالمصاطب الخشبية، فرواده الفقراء كثيرون جدا ولا تكفيهم الكراسي وأحيانا تصل الجماهير الى الشاشة). وما بعده هناك 'أبوالثمانين' وفوقه قليلا 'أبوالتسعين'، وفي المؤخرة تنتصب الألواج التي كان سعرها لا يتعدى ربع دينار!ومثل هذا العدد كانت السينمات الشتوية، أي المغلقةِ وبالرغم من هذا العدد الكبير للسينمات، إلا أنها لا تتنافس، فكل واحدة تخصصت بنوع معين من الأفلام، ولها أسلوبها الخاص في استقبال الزبائن وحتى طريقة جلوسهمِ والشتويات تعمل صيفا، فكل شيء معد حسب التكييف المركزي، حيث الكهرباء لم تنقطع في تلك الأوقات إلا نادرا ، وكان 'الأعور' وهو مشغل الفيلم كما يطلق البصريون عليه شخصية مهمة، فهو الذي يقرر عرض اللقطات الخاصة وله حظوة بين رواد السينما الذين يتوسلون إليه لكي يروي لهم تفاصيل اللقطات التي قام بقصها ، وهناك 'أبواللايت' الشخصية المهمة الثانية الذي يمكنه أن يدخلك بلا تذكرة لمشاهدة نصف الفيلم بعدالتأكد التام من خلو بعض الكراسي، تماما يمكن ل 'أبوالبيبسي' لعب هذا الدور حتى لو بمساعدة 'الدرنفيس' الذي يستخدمه لفتح القناني، وحملة إعلانات الأفلام الجوالون في العشار يعتبرون أكثر شهرة من المحافظ أو أي فنان محلي أو أديب، فلا يوجد بصري أصيل وقديم لا يعرف 'تومان' الذي كان يرفع الإعلان بيد ويعزف 'الفيفرة' بأنفه!لم يتحسر البصريون على أي فيلم ظهر في العالم، فكانوا يشاهدونها مع جمهور لندن ونيويورك والقاهرة في وقت واحد ولم يمنع عنهم أي فيلم مهما كان مضمونهِحاليا، السينمات ممنوعة في البصرة ومن يتفوه بهذه اللفظة يجلدونه!
النوادي الاجتماعية
لكل بصري له مهنة، ناد يستريح به في المساءِ وكان أشهرها على الإطلاق نادي الميناء أو 'البورت كلوب' كما اشتهرت تسميته لدى كبار الموظفين في تلك الأوقاتِيليه في الأهمية نادي الأطباء والمهندسين والمعلمين والضباط وأساتذة الجامعةِ وبالمناسبة هذه لم تكن نواد للشرب والسكر، فقد كانت العوائل والأطفال يقضون أمسياتهم فيها، أما الذين لا مهنة محددة لهم، فكان بوسعهم ريادة الكثير جدا من النوادي الخاصة. ولكون البصرة جمعت العديد من الملل والقوميات والأديان، فقد اشتهرت بها الأندية المنشأة حسب هذه الأطيافِ واشتهرت كثيرا، في وقتها، أندية الآشوريين والسريان والأرمن والصابئة في عقد الأمسيات الثقافية والأدبية والموسيقية. ولعب 'نادي الفنون' دورا كبيرا في مطلع السبعينات كمؤسسة ثقافية حيث كان يقدم نحو 15 مسرحية في يوم المسرح العالمي في وقت واحد، ناهيك عن ان قاعاته لم تخل من معرض تشكيلي على مدار العام. هذا النادي وغيره التي ذكرناها تحولت إلى إسطبلات ينشر فيها الأميون أيديولوجيا التسلط، وغابت تماما حتى من ذاكرة المدينة.
قاعات الثقافة
على منصاتها ألقى شعره الجواهري وأدونيس ومحمود درويش ونزار قباني وسعدي يوسف والبياتي وبلند الحيدري وكل العمالقة الآخرينِ وتجرع عليها دريد لحام من 'كأس الوطن' وأطرب الناس منها فؤاد سالم وأنجبت أول أوبريت غنائي في تاريخ الفن العراقيِ لا ينسى البصريون ذلك التدافع الممتع أمام بوابات قاعة الموانئ لحضور جلسة شعر وتلك الناصية المزهوة بالورود أمام قاعة 'مبرة البهجة' التي أهدت العراق أكبر مطربيه وفنانيه التشكيليين والممثلين، ولا يمكنهم أن يمحو شعورهم ما أن يمروا على قاعة التربية التي كانت مرضعة للفنانين والشعراء ولا قاعة بهو الإدارة المحلية الذي وقف على خشبته تاريخ المدينة بأكمله، كما كان الحال لقاعة الهلال الأحمر. قاعات المخلوقات الجميلة وخيرة ما تفجرت به قريحة البصرة تبدلت وأصبح من الصعب التعرف عليها وبدت كأطلال باعثة للأسى.
حي الطرب
ينتشر في منطقة معزولة خارج المدينة، لمن يريد اللهو والاستمتاع وكنس الكآبة من نفسه وشراء الرضا. يعمل 24 ساعة في اليوم وفيه تقاليد خاصة بالغجر الذين يشكلون غالبيته العظمى. هو واحة السلام والغناء والرقص والهزل والضحك وابتداع الخيالات وطرد الضجر، وكل من 'ينحدر' وتطأ رغباته هذا الحي يعد ضمن سكانه ولديه الحق في فتح باب أي بيت بلا حمرة أو تردد، والانضمام الى من فيه ومشاركتهم يسرهم وعسرهم لقاء مبلغ كان بسيطا على الجميع. ليس لهذا الحي ذكر الآن، إلا في مدونات المدينة وضباع الأنس المتساقطة أنيابهم.
حدائق السلوى
حين تلبس أجمل ما عندك وتخرج من البيت في البصرة، يعني أنك ستتجول في الحدائق المطلة على شط العرب، قبل أن تختتم أمسيتك في واحدة من أماكن الإمتاع والمؤانسة المذكورة، فحديقة الأندلس، صممت على الطراز الإنكليزي، حيث كان اغلبهم يسكنون هناك بالقرب من الميناء ومحطة السكك، وتوارث البصريون وعمال الموانئ حرفة الاعتناء بأرقى الزهور الأوروبية، التي كانت تنتشر بأشكالهندسية تتناسق مع النافورات الملونة التي تسرح بهاء في النفس وتشجعك لإطالة النظر إليها لترصيع القلب بنشوتها. ولـ 'حديقة الأمة' التي تتوسط الكورنيش رائحة خاصة تدور رأسك بالياس وعذوق التمر الدانيات القطوف وذلك الملمس المسموع لنافورتها الموسيقية وحمرة مصطباتها الداكنة والتقدم المهذب للمصورين المتجولينلالتقاط صورة العمر لك، وكذا الحال في حدائق 'السراجي' و 'الخورة' التي خططتها الطبيعة بالخضرة والماء والوجوه الحسنة وعباب الألفة الفسيحة.احتلوا النهر والضفاف وزمجرت أبواق التحذير في ذلك اليوم الذي قرر فيه 'السيد الرئيس' الاستيلاء على حديقة الأمة وإهدائها الى زوجته ووضع يده على حدائق السراجي وبناء مجمع رئاسي من القصور التي لم تسمح له الأقدار حتى برؤيتها، بعد أن قام بإغلاق الكورنيش عند تقاطع الجزائر وحتى نهاية السراجي وأغلق شطالعرب بالكاملِ وأتعس ما قام به، كان تهديم 'قصر السباع' التراثي لصاحبه الشيخ خزعل أمير المحمرة وإزالة تلك الأسود التي لا يوجد 'بصري أصيل وقديم' لم يصور معها.
المقاهي
لعبت المقاهي البصرية دور الجرس وأخذت على عاتقها الصيحة وتبادل الكتب المسموحة والممنوعة وتوديع من أوشك على الهروب من الوطن وكسب الصديق الجديد الى الحزب الثوري ومراجعة الدروس والمحاضرات ووضع السيناريو المحكم لمصارحة الحبيبة.وكانت الأحزاب ومثقفيها يركزون تواجدهم على مقهى بعينه، فكانت أشبه الصالونات الثقافية والسياسية يجلس فيها أستاذ الجامعة مع القصاب والمراهق مع الشيخ. وتميزت مقاهي 'أبومضر' و'الشناشيل' و'14 تموز' وكازينو البدر التي كانت تطل مباشرة على شط العرب وفيها قاعات للجلوس وممارسة الألعاب كالدومينو والطاولي وقاعة أخرى للمطالعة يرتادها طلاب الجامعة على الأغلب وفيها قسم مظلل بالأشجار يستقبل العائلات وغيرها، فان الكورنيش كله ينقلك من مقهى الى آخر، أزيلت جميعها لتنصب مكانها عشرات التماثيل لضباط سقطوا في الحرب وقتلوا بدورهم فرحة الكورنيش.لا تعثر الآن على مقهى في البصرة تجلس فيه، سوى زوايا لبيع الشاي والحامض ومصطبة واحدة أو اثنتين تخصص لمن يطلب أكلا من مطعم مجاور.
ميدان الدواليب
كل الناس بمختلف الأعمار والأجناس كانوا يتلهون هناك في الأعياد والمناسبات وأحيانا يبتكر الناس هذه الفرص أو يمددون أوقات الفرح. والفرجة مجانية، غير متعالية وسهلة والمحترفون في إيداع السعادة في قلوب الخلق يقدمونها اليك باقاتبيضا، وما عليك سوى عبور القنطرة والاندفاع من أعماقك لمس فرط طيبتهم، تجد هناك كل الألعاب الماكرة، فرارات الحظ و'فوق السبعة وتحتها' والزهر و'اللكو' واختبارات القوة وخيمة السيرك المحلي الذي تنفث فيه نساء غريبات النار من أفواههن وتخرج الطيور والقطط من الصناديق الفارغة وتغرز فيه السكاكين في الجسد دون أن يصاب المرء أذى.ستتعرف هناك على 'تومان' أسطورة المدينة ومهرجها الأوحد بلا منازع وستسمع كل الأغاني التي ترغب وحسب الطلب وسيملأ أذنيك صوت أبو 'الدنبلة' وطلبات الجموع ب 'جرخلة' لتغيير الحظِ سيفضون أفواه من تتعثر كلماتهم وينطقون بذكريات ذلك الميدان الساحر وسيتمنون الاستلقاء على وسادة نحل غاضب، من طرح الاقتراح الشرعي بالحديث عن أيام زمان!
الخشابة
ألذ المجموعات البشرية التي قطنت البصرة: رعاة 'الكيف' وفاكهة البهجة فبرنامجهم الفرح ونهجهم السعادة، أولئك الفتية والرجال السمر الذين يعزفون على الدفوف و'الدنابك' وفي أفضل حال يحمل أكبرهم العود ليضبط الإيقاع على ظهره الخشبي ويوزع الموسيقى بلسانه!لم ينجب العراق 'كاسور' (وهو ضابط الإيقاع) مثل سعد اليابس ولا ينسى أحد فرق الخشابة الذين كانوا يحيون أمسياتهم في الشوارع والساحات، والفرجة ببلاش،واشتهرت فرق 'أبو دلم' و'حسين بتور' و'ربيع' في الثبات طوال الستينات فيما ابتكره أهل البصرة بفرق الشوارع، أو الفرق الجوالة التي اشتهرت في أوروبا بالمناسبة، ولا يطلب هؤلاء الموسيقيون الشعبيون نقودا لإحياء عرس أو طهور أو أي مناسبة أخرى، يكفي أن تمنحهم فرصة للغناء وتعشيهم وتمنحهم 'سطل' عرق يغرفون منه حتى الصباح، وحفلاتهم بلا جمهور، لأن جميع الموجودين مشاركين، كبارا وصغارا، كلهم يشاركون في الغناء و'الصفكة' البصرية المعروفة، وحتى عندما يقررون العودة بباص خشبي أو مشيا الى بيوتهم، فإنهم يستمرون في الغناءحتى آخر نفس.
الطبكة
أو 'العبارة' التي تنقل الناس ما بين ضفتي شط العرب وكان لها هناك مرفآن، واحد تابع لعبارات البلدية وآخر أنشأته جامعة البصرة حين كان مقرها في الشاطئ الآخر الواقع في قضاء التنومة متاخمة للحدود مع إيران تقريبا. وكانوا يطلقون عليها أسماء بحارة عرب كابن ماجد وابن بطوطة وغيرهم و'أبوالطبكه' أو سائقها معروف لدى كل أهل البصرة. ولـ 'طبكة' الجامعة حكايات أجيال بأكملها، فمنها عبر يوميا ذهابا وإيابا كل الأطباء والمهندسين والعلماء والمدرسينِ ولا يسمح عبور غير طلاب الجامعة وسيارات الأساتذة (تسع في كل مرة ثلاث سيارات فقط)، وكانت حلم طلاب الثانوية ولا يكلفك معرفة عشاق الجامعة أي عناء، فملتقاهم عادة ما يكون عند 'الطبكة'. وبسبب بطئها ومواقيت حركتها المحددة، كان الناس، بمن فيهم الطلبة المستعجلين، يستخدمون القوارب التي تسمى 'الماطورات' فهي قوارب خشبية تتسع لأكثر من عشرين شخصا يسيرها ماطور يعمل بالكاز، وإن تسببت 'الطبكة' والماطورات والشط، بابتلاع الكثير من العابرين وغرقهم بحوادث مختلفة، إلا أن اندثارها ضيق فسحة الذكريات والأيام الحلوة.
أم البروم
قبل قرنين كانت مقبرة، هذا المكان الذي أصاب كثيرا من أسماه، فالساحة أو المدينة ولا يمكنك العودة الى البيت في المساء دون أن تمر على أم البصريين: ساحة أم البروم.في ليلة رطبة للغاية قبل أقل من قرن، أزالوا عنها شواهد القبور والرايات وأكف الحسد وقباب النذور غارزين فيها بعض أعواد الصفصاف وتراب خصب، عله يسهل استلقاء موتى الطاعون الكبير، توازيا أمهلوا ماء نهر 'الخندك' برش الثرى الملغي لأموات المدينة.ومنذ ذلك العام المبكر من القرن العشرين، ولغاية نهاية السبعينات، كان 'الثيل' الذي زرعوه على رمال المقبرة، مهدا لكل المارين المتعبين ومنتظري حافلات 'الأمانة' الحمراء التي توزعهم على كافة أنحاء البصرة لغاية الواحدة ليلا ِ ومن يتأخر بعد هذا الوقت، أما يذهب مشيا أو بسيارة أجرة والغالبية كانوا يفضلون قضاء ليلتهم على 'ثيل' أم البروم الحاني والندي، النظيف، المكلل بالورود، عبر السياج نفسهالذي عين به عمال بلدية العهد الملكي حدود الساحة وحقوق مرتاديها. وكان سكارى الليل وشعراؤه، يسلمون الساحة الى عمال الفجر والجنود المكلفين والموظفين المناوبين، وقبل أن تشرق وتضيء، سيغطي الساحة مئات من كسبة 'المسطر' وهم العمال غير الدائمين الذين يطلق عليهما 'الكجول'، أي أولئك المستعدين لعمل أي شيء لقاء مائة فلس في اليوم، تطورت في وقت لاحق لتصبح ربع دينار. وقبل الشمس تضيء الساحة فوانيس و'لوكسات' أصحاب العربات المتنقلة الذين يطبخون أمامك شوربة العدس و'الماش' ويذيقونك 'الكبة' الأصلية أو الهريس، وربما 'التشريب' بكافة أنواعه، علاوة على كل محشيات البرغل، وثمة تدرج غير منتظم لباعة 'الباجه'ِ أما الهنود فكانوا مختصين بالفلافل والسمبوسة وليس لديهم عربات، بل كيس من الخوص يحملونه على ظهورهم مع سترة فيها الكثير من الجيوب، وفي كل منها بهارات أو 'شطات' كيميائياتها خاصة بهم ولا يعرف أحد أسرارها.لم تكن ثمة 'وقائع صحية' ومراقبات ولا يشكو أحد من شيء، فالعشرة فلوس تكفيك للفطور وعشرون مثلها للغداء، في ساحة الفقراء التي خصها السياب بقصيدة 'أم البروم' التي حملت أسئلة عالقة للآن في ثراها. فيها تعثر على المجلات الجنسية تحت قمصان البحارة وتختار خروف النذر وتجرب الحذاء المهرب وتسمع لأول مرة أسماء الحمامات الوفية وتقف كثيرا لتعد ما في جيبك قبل أن تقرر شراء الكتاب المحدث والصرعة الأدبية المترجمة، ستجبر على الخيار ما بين الاسترخاء في سينما الكرنك المشرفة على الساحة ومشاهدة سرقة بنك أو فيلم كاوبوي وما بين تناول سندويتش سمبوسة و'بطل' بيبسي بالمشاركة وستختار الكتاب في النهاية مع الجوع!ستمر السنون لتشنق فيها في أشهر السبعينات الأولى جمال صبحي الحكيم، أجمل شبان المدينة وأكثرهم أناقة وزكي زيتو تاجر الساعات اليهودي البصري الرقيق والفائق التهذيب والحاج جيته أكبر تاجر بصري من أصل باكستاني وصاحب الحسينيات العديدة، بدعوى التخابر مع 'العدو الصهيوني'، ليلطم هذا الحدث صورة الساحة الأم ويعيدها لزمان الطاعون الذي استواها مقبرة. لا يزال منظر الانضباط العسكري وهو يؤرجح الجثث المعلقة بعصاه لكي يريها الجمهور نفثا حارا فيذاكرتنا ونفورنا الإجباري من ساحة وشموها بالمرارة مجددا.ستهزل الأجساد بالتدريج وترقع الثياب أكثر فأكثر لتضم الساحة المتسولين والمتشردين والتائهين والقوادينِ سينقرض الهنود الذين يطلق البصريون على السوق الذي يتفرع من الساحة باسمهم 'سوق الهنود'، لتظهر ملل مهاجرة أخرى من سودانيين ومصريين وقرويين من مدن الجوار ينتظرون من يشغلهم في الكناسةوالحراسة والحمل ورعاية الحيوانات وتنظيف المراحيض.سيظهر المواليد الجدد الذين سرعان ما حولوهم الى جنود بعد رسوبهم سنتين متتاليتين في المدرسة ليقذفوا بهم الى أتون الجبهة التي حولت المدينة كلها الى حرب، وستتحول 'أم البروم' الى معسكر غير رسمي لشعب جديد من جنود المحافظات الأخرى وشعوب الدول الشقيقة وأمهر صباغي الأحذية، للمنتظرين حتفهم والمخططين لهروبهم، لمن ينتظر الحكم ومن أسقطت عنه الجنسيةوأمر بالسفر حالا، للمديونين والدائنين، للنشالين ولاعبي القمار المدمنين، لباعة السجائر والمطرودين من بيوتهم، للمسرة الضائعة وتحولات الدهر الذي سرعان ما تنبأت به الساحة، لشجيرات الصفصاف المتناقصات بعد تهشيمها في الليل وحرقها حطبا في النهارِ حين سقطت 'أم البروم' سقطت البصرة!
شارع التنانير
لم يبلطه الملكيون ولا القوميون ولا الشيوعيون، لغاية إزالته نهائيا في زمان الثمانينات الغامض، وكانت الباصات الخشبية التي تحمل عشرين روحا تنزلق في أوحاله طوال الشتاء، فهذا الشارع من النوع الذيلا تجف فيه المياه طوال الفصلِ وفيه تخصص الأسطورة البصرية' كنو' وهو سائق زنجي سكران طوال الخمسينسنة التي عاشها، بابتداع الحوادث، ومع ذلك لا يمانع أي بصري في الركوب بباصه الخشبي حتى لو كلفه ذلك الانطمار في نهر المستشفى المحاذي لشارع التنانير فقد كان مبتدعا للنكتة لماحا لا يضاهيه احد سوى خليفته في الحوادث والنكات 'حميد كلن' (ينتهي عنده البنزين في منتصف الطريق دوما ومنظره حاملا غالون الوقود الفارغ باحثا عن البنزين من أودع هذا اللقب له). تخصص هذا الشارع الذي يحيطه نهران آسنان بصناعة تنانير الخبزِ ولن تجدوا في أي اتجاه وأي بقعة في الأرض، شبيها لهِ فشاطئي النهرين غير المسمين أبدا، تغطيهما تربة خاصة جدا، هي مزيج من الغرين و'الطين الحر' الذي كانوا يعالجون به الممسوسين!صناع التنانير نساء فقط، اللواتي يرتدين خمس عباءات في آن واحد مهما كان قيظ النهار، ثلاث منها يلففنها حول وسطهن لسبب لا يعرفه أحد بالتأكيدِ وبالتأكيد أيضا لم يعرفن مفردة 'قفازات'، فكن يستخرجن الطين والغرين من النهر بأيديهن وكصناع الفخار تقريبا، يؤسسن شكلا اسطوانيا من الطين(ليس تماما، فمدخل التنور يكون أضيق من بطنه ليعود الى الحجم نفسه في النهاية).هكذا تعمل نسوة التنانير طوال النهارات المشمسة، حيث يشترط وجود التنور في الظهيرة الحارقة، لكي ينشف وييبس ويصبح مكانا تشعل فيه نيران الخبز المئويةِ
كل أهل البصرة يشترون تنانيرهم من هذا الشارع وجميعهم على الإطلاق تناولوا الخبز بفضل هذا الشارع الأسطوري، لذلك فان ميقاته مرهون بالمدينة وإن غاب، غابت، جدلية تطول إن لم يسطع برهان آخر في مبتكرات الأفران الكهربائية وتشقق أكف صانعات الخبز ومطعمات المدينة، أو انقراضهن بالرتابة نفسها التي جفت فيها أحلام البصرة.
الداكير
بناه الأتراك على نهر 'الخندك' معسكرا لجنودهمِ وما إن خسروا البصرة حتى أقام فيه البريطانيون والهنود 'الكركة' الذين جلبوهم معهم، ليتحول فيما بعد الى سوق لتجار أعلاف الحيوانات وتوسع فشمل الحمامات الشعبية التي كان الجنود الأجانب يستخدمونها أيضا ومدرسة تخرج فيها الرعيل المتعلم الأول في البصرة، والداكير نهر أيضا، والمنطقة برمتها تحولت الى أكبر موقع تصل إليه مئات الأرامل والمسحوقات يوميا ليمارسن فيه 'تفشيك' التمر (استخراج النواة من التمر).كانت المرأة الواحدة تنهي يوميا 20 - 30 صندوقا لقاء درهم واحد للصندوقِلكم أن تتخيلوا مئات النسوة المتشحات بالعباءات السود بتسلسل طويل أمام عمارات الصناديق وأكوام التمر وسط الزعيق والغبار والذباب الذي تجذبه حلاوة التمرِ وبعضهن تخصصن في إزالة الأوساخ من التمر في عملية تعليبه لغرض تصديره الى الخارجِ وتنتشر هناك 'الجراديغ' التي تتولى كبس التمر بعد' تفشيكه' وتنظيفه وثمة أنواع معلبة يضيفون إليها الجوز ليوضع في النهاية في صناديق خاصة تنقلها الشاحنات الى' المهيلات' الراسية عند شط العرب ومنها الى بومباي ليعاد تصديره من هناك.لم تستخدم نساء الداكير 'القفازات' بالطبع ولا السكاكين، وكن يستخرجن النواة بأظافرهن، وليس هناك صورة ثابتة في ذاكرتنا، أكثر من تساقط أظافر الفتيات وتلمسهن العملية بأسنانهن بعد سريان الدماء من أصابعهن بإرادة عمل مكنونها الحرمان الكامل وتقتير قطرات الحليب لإرضاع الطفل. سيبقى الظفر الفالت من أصابع البصريات على أرض الداكير وبين الصناديق وأبواق الشاحنات وصراخ السواق ومراقبي الجراديغ، اللوحة غير العادلة لجمر إشارات المدينة الفائقة الثراء والليل المزعزع نشوة الدرهم المستحيل هدمة وقطعة خبز أسمر.
سايلو البصرة
على منصات شط العرب مباشرة، ذلك السايلو المهيب الذي كانت صورته تتوسط ربع الدينار العراقيِ وكان الشبان الفقراء للغاية، يقفون بالمئات يوميا عند مدخل السايلو، بانتظار ان يختاروا منهم حمالين لأكياس الحنطة القادمة من البحر والراسية بواخرها عند السايلو مباشرة، أو تحميل الأكياس من مخازنه الى الشاحنات ومنها الى كل البلاد. يمكنك شم رائحة الحنطة على ظهور الشبان المحنية من آلاف الكيلوغرامات التي يحملونها يوميا ولم يبق أي من الكادحين كما كانوا يسمونهم من أهل البصرة، إلا واشتغل حمالا في السايلوِ وفي عام 'انتحار الطيور'، استدعوا المئات من الشبان، لكي ينقلوا مئات الأطنان من الحنطة المسمومة من السايلو ليتركوها في 'هيمة الوينبي' وهي مربع من مساحة فارغة تحيط به أربعة أنهر بين منطقة الأصمعي القديم والجديد.تركوا تلال الحنطة المسمومة هكذا في العراء مبللة رائحتها النتنة المنطقة كلها، الذي حصل أن الطيور المحلية وكذلك المهاجرة برمتها غزت تلال الحنطة المطرودة من السايلو لتلتهمها وتموت مباشرة على تلالها.كان منظر آلاف الطيور الميتة على تلال الحنطة طيفا مقددا لخبز الصباح المفقود، فلغاية نهاية السبعينات كان البصريون يتناولون 'خبز التموين' وهو من الطحين الأسمر لأن سعر الرغيف 4 فلوس وليس 5 فلوس للخبز الأبيض، ويفهم من ذلك أن الفلس الواحد كان يسبب فارقا طبقيا مهما ما بين الأبيض والأسمر!
السجن والمستشفى
' وجهك سجن وقفاك مستشفى' مثل بصري فرضته الأمكنةِ فسجن البصرة يقع أمام مستشفى غازي الذي سماه الثوار المستشفى الجمهوريِ وكان السجن مقابل المستشفى بالضبط والاثنان يستقبلان الداخلين الى المدينة الى 'باب الزبير'، مفتتح البصرة القديمة وطلاء سناها وانتظار وافديها في الاستطاعة والمقبول، القرينبصور الدعامات الإسمنتية المثبتة بيوتها الأولىِ وبعد مضي قرون طويلة من الثورة الصناعية، كان زوار السجن ورواد المستشفى يذهبون الى هناك بواسطة 'الربل' الذي يجره حصان أو اثنان، مظللة جلسته بالقماش أو الجلد غير المدبوغ جيداِهناك قضى أشقياء المدينة حكمهم وأمامهم ولدت أجيال البصرة جيلا بعد جيلِ وبين السجن والمستشفى كثر المسنون والمتسولون وباعة هدايا المرضى والمسجونون على السواء في زحام الجمعة التي يفضلها الناس للزيارة، يغوص بهم مفتتح المدينة من فروتها حتى أخمصها، ستار لكوميديا إنسانية بين الجاني والمجني عليهم، لا يفصلهم غير شارع عربات الخيول والحمير ملقيا بهم في نهاية النهار لجامع الكواز ليسيجوا دعواتهم لمرضاهم ومسجونيهم، لتلك المآسي التي تخفف من وطأتها البنايتان، اللتان سيأتي اليوم الذي تتدهور فيه أحوال المستشفى الذي أنجب شعب المدينة ويزال فيه السجن من عروقه الإنكليزية، لإنكليز جدد، سيلقون بالمسجونين بعيدا جدا عن مفتتح المدينة وهدايا الزوار وقناني الشربت وعلب القند وسجائر اللفوبركات أقمشة الأولياء الخضراء.
كازينو التأميم
هو الوحيد الذي بنيت على شط البصرة مباشرة وانطلقت منه أول مسابقة تشهدها المدينة لزوارق التجديف وشاهد شبان السبعينات أول بلياردو وسمح فيه لأول مرة أيضا بلعب 'الدنبلة' وفيه نزل أول تلفزيون ملون شاهده فقراء المدينة.والمقهى الأول الذي تقام فيه حفلات لمطربين مشهورين وعلى تخوته نمت الأفكار والمسرحيات وتبادل الأدباء الشباب مخطوطاتهم القصصية والروائية والشعرية.فيه كانت مجلات 'شعر' وعطايا 'أبولو' وآخر أعداد 'الآداب' و'الهلال' وتلهى صبيانه بصور 'الموعد' و'حواء'. استحث المقهى تلاطم السياسيين وتنوع المسرحيين وخواطر كتاب الأغاني والشعر الشعبي ومبتكري 'الأوبريت' في البلاد ودرب أبطال الشطرنج وأخفت مصائب المحبين وخففت مصائر الفاشلين.
حي الأرمن
ملتصقة بيوته كلعبة أطفال، وكلها ذات طابق واحد، على الطراز الجبلي لكنها على أرض منبسطة، حافظ البصريون الأرمن على ذوق رفيع للغاية في استكمال مشهد المدينة وكانت زيارة صديق في الحي تثير البهجة أوقات العصر، حيث الجميع يجلسون عند عتبات البيوت يتبادلون الحديث الزاعق بلكنة واضحة، دون أنيكترث احد بمقدم الزائر الغريب، وبالرغم من أن منظر بيوت الأرمن من الخارج متواضع ومتهالك أحيانا ويعطي انطباعا بأن البيت صغير جدا وغرفه تبتلع الأخرى، إلا أن مشاهدته من الداخل تحسم الجدل في صغره، حيث يظهر أوسع كثيرا مما يوحي منظره، ناهيك عن الترتيب الفائق العملية وتزيينه بالزهور والتحف وكل ما يحتاجه البيت من أثاث.
خمسة ميلمهد الأشقياء والملاكمين، النشالة والمهندسين، العاملين بأيديهم من السادسة فجرا حتى العاشرة مساء، يرغب سائق تاكسي في الوصول إليها خوفا من تناثر زجاج سيارته من حجارة الصبيان الذين إن سألتهم عن مكان بيتهم أجابوا: من أهل خمسة أميال!منسوجة من أعراق الشعب المسحوق للغاية، لكنها الوحيدة ممن ذكرناهم بدأت تعيسة وانتهى بها الحال كمستوى الأحياء البصرية الراقية الأخرى من مهانة ومستنقعات وحفر وزبالة ومجار طافحة وانعدام الماء والكهرباءِ لم يتطور الحي وكان في وضع سيئ لا يمكنه أن يكون أسوأ في كل الأزمات، لذلك تلاشى الفارقبين الواقع والاستعداد حين انحدرت المدينة برمتها الى قاعها.
شارع بشار
توازن لا يحدث إلا في البصرة: مركز شرطة المدينة مقابل أزقة الداعرات ودورهن العتيقة!هكذا كانت لوحة البصرة عندما كانت واثقة من نفسها ومراعية نجواها ومحترمة 'ليبراليتها' التي لم تسمح لأحد أن يتسلط عليهاِ وقد يكون سر رحيقها الخاص، أن تخرج من وسط حي المومسات، أفضل دكتورة متخصصة في الأدب الفرنسي في العراق. لم تعتد الشرطة على 'حقوق الإنسان' في هذا الجانب، فالمسحوقات اللواتي ارتضين هذه المهنة كن يجلسن بمنظر ليس فيه إباحية عند عتبات الدور، والمارين قرب مركز الشرطة يتفاهمون معهن بالحسنى وآخره نور بالتزام الشروط.كانت هذه المنافسة العميقة العذوبة بين القانون والانحراف شديدة التلقائية، كما لو كانت تسير على حافة سكين لطابع المدينة وجوهرها، حقيقتها العارية بلا أردية، منسقة الشكر والوحدة، الغياب والوجع، مبتدعة أرق حل لمعاناة وكبت كل الأطراف مجتمعة.
ثلج الجمهورية
المدينة حارة وأوقات رياح 'الشرجي' صيفا يختنق الناس من الرطوبةِ وكان أكثر الموظفين رخاء يحتاج الى قرض لكي يشتري ثلاجةِ وفي حقيقة الأمر لم يتعد محلات الأجهزة الكهربائية في البصرة أصابع اليد، فقد كانت مئات الثلاجات فقط قد دخلت الى البصرة التي يقطنها مئات الآلاف، والبصريون ابتكروا ثلاجة الفقراء وهي: صندوق الثلجِ وهو عبارة عن صندوق خشبي يغلف من الداخل بطبقةغير سميكة من الصفيح مهمتها عزل داخل الصندوق عن خارجه حرارياِ ويستطيع أي نجار صناعته، بإضافة حنفية يسري فيها الماء البارد من صندوق معدني صغير داخل الصندوق الكبير، وبالرغم من فقر الغالبية العظمى من أهل البصرة، إلا أنهم عاشوا التقاليد الأوروبية في الخدمات، فقد كان 'أبو الثلج' يوصل لهم ربع القالب الى البيت، كحال باعة الحليب والصمون والجبن والزبدة واللبن، وحتى الحلاقين ومركبي الأسنان الذهبية والسحار والمشعوذين وقراء الفال كانوا يمرون على البيوت مع الزبالين وعمال البالوعات والخاطبات وملقحي النخيل، وتكفل معمل الثلج الواقع في حلق منطقة الجمهورية بالتوزيع العادل وتخفيض درجة حرارة المدينة، مثل دوي مكائنه التي يسمعها كل أهل البصرة النائمين على السطوح.
مقبرة اليهود
تنتشر فوق المستوى العادي لسطح المدينة، تحيط بها البيوت من ثلاث جهات والرابعة ثبت شبان المنطقة هدفين لكرة القدم وعدلوا الأرض لتصبح مقرا لمباريات الفرق الشعبية في البصرة القديمة. المقبرة تطواف نهائي لأهل البصرة اليهود الذين عاشوا طوال قرون في المدينة بالآلاف وقد يزيدونِ عاشوا فيها قبل 'الفرهود' وماتوا دون أن تبتل أسماعهم بكلمة واحدة لا تدل على أنهم من سكان البصرة الأصليين وأبناء 'الولاية' كما كانوا سابقا يطلقون على أهل المدينة الواحدة. وبعد أن حصل ما حصل، لم يمسس بصري قبورهم وبقت محافظة على تنسيقها وترتيبها القديم، لكنها تحولت بالتدريج، وعلى الأرجح، لكونها منطقة عالية ومعزولة ومرتبة، الى مكان يسهر فيه الشبان ليلا بمجموعات.هناك يتسامرون ويضعون خطط مباريات الغد ويتبادلون المنشورات السرية وعلى هامش هذه اللقاءات يجلبون معهم الرقي (البطيخ) والعرق ، وعلاقة البطيخ بالعرق غير متجانسة للوهلة الأولى، لكن الذي يربطهما رخص الاثنينِ فما إن يكرعوا العرق حتى يشقوا البطيخة ليستخدموها كمزة وكذلك الحب الذي بداخلها، وهكذا تحولت 'مقبرة اليهود' الى أكبر بار شعبي لا يتطلب الدخول إليه شيئا حيث كل سكانه من الأموات.
المدينة الأزلية
ومع ذلك فالبصرة وإن كبا جوادها فهي متربية على تحويل الفوضى نظاما والرطوبة رحيقا والأحايين همسات والظلام تكاتفا. خصلتها وطبعها وجدائلها كوجدانها، برك من القذارة تعوم على الذهب وقميص مشقق يخفي قلبا كبيرا وعقلا نابغاِ جبلت المدينة على أن تأكل ذيل السمكة فقط، مركونة تقرفص أوجاعها وتعطشها لقطرة ماء صحيحة الى أن يأتي اليوم الذي يسقط الكرى عن جسدها المهلهل ويرفعوا الفأس عن رأسها ويملأوا سلالها بالتفاحوالأرجوان والخبز الأبيض.