الأحد، 9 مارس 2008

وما أدراك ما إبراهيم الخليل!






الحدود العراقية - التركية - د.جمال حسين علي:

تستطيع شمها من على مبعدة 50 كيلومترا، بداية بفضل بقع الزيت المتسربة من الشاحنات التي تعبأ بأكثر من طاقتها وبالتدريج حتى الكيلو 30 قبلها تختمر الموجودات بحس النفط الخام وتتلون به حتى القمصان الطارئة، ناهيك عن الطريق الآخذ بالاسوداد شيئا فشيئا مسيّجا بمراتب النفط طبقة إثر طبقة يخفت بسببها صوت محرك السيارة لتسير ببطء ناقة خوفا من الانزلاق على أفعى الطريق الملتوي على رقبة جبل لا يكل من التوافق بين لهيب الزيت والشمس وحوافر المهربين دولاً وحكومات ورايات أرخت صدورها ما ان أطلت بوابة البرج الذي يعيل الملايين وكماشة الذهب المغمغمة مع الريح باسمها الواثق المستأنس: إبراهيم الخليل! > أهذه هي؟ - نعم .. فكيف تصورتها؟ لا شيء فيها يمكن تذكره سوى غرف صغيرة متناثرة وأعمدة حديد متآكل. هل تستطيع هذه البساطة بلع آلاف الضحايا الذين تقاتلوا من أجل السيطرة عليها؟ وأعود لأفتش في أوراقي عن أسباب أكثر منطقية: تدر نقطة إبراهيم الخليل الواقعة في قضاء زاخو الذي يخضع لسيطرة الحزب الديموقراطي الكردستاني نحو نصف مليون دولار نتيجة تمشية المعاملات الجمركية الرسمية. عدا هذا المبلغ هناك ما يمر عبرها من بضائع بلا جمرك أو لنقل انه تهريب لا يستحي منه وليس عليه حرج أحد طالما يخدم المصالح العليا لكل الأطراف. ووصل الأمر الى أن هذه النقطة الحدودية التي تفصل أراضي الأخوة الأعداء تحولت الى أهم عامل سياسي يربط هذه الأطراف وأول ورقة استخدمتها تركيا، على سبيل المثال، للضغط على الزعماء الأكراد في تحديد قضاياهم المصيرية وتصحيح تصريحاتهم. وهي النقطة الحدودية التي تكاد تكون الوحيدة في العالم التي لا تخلو مباحثات الدول الإقليمية الكبرى دون التوقف عندها ومناقشتها وكأنها باب الجنة ومفتاح خلاص الأمة.
رئة كردستان
عاشت كردستان عليها بشكل أساسي منذ انتفاضة 1991 حتى نهاية عام 1996 حين بدأت عجلة «النفط مقابل الغذاء» تدور في الإقليم، ويحاول كل طرف وبقدر تعلق الأمر عليه التقليل من أهميتها وشأنها وأرباحها ولا يمكن أن تعثر في أي أوراق رسمية أو غير رسمية على أي دليل أو إشارة ولو من بعيد عما يجري فيها وماهية محصولها وأي رقم عن أي شيء. وكأن أناسا هلاميين يسيرونها فلا أحد يتوقف ليجيبك عما يجري هناك حتى لو توافرت لديك كل حصافة الرياضيات وعيون زرقاء اليمامة وفضول جحا ونظافة عدسات أقمار التجسس الصناعية. وفي النتيجة لا تتبين الرائح من الغادي ولا البارك من الحادي. هذه الحدائد الصدئة، هبوطها وارتفاعها يعادل حياة ملايين البشر في هذه البقعة المليئة بالتوتر .. عملية الهبوط والارتفاع تمثل رئة كردستان التي تتنفس بها كالشهيق والزفير بالضبط. وهي أم المشاكل والاقتتال وقلب الخلافات وبسببها استبدلت كردستان حبات المطر بالرصاص وعلى إيوانها سقط الآلاف من خيرة شباب البيشمرغه بين نعم ولا. ونسأل مسؤولا حقيقيا: > ألم يكن حل هذه المشكلة بالتراضي أفضل من الاقتتال؟ - بلى، تم حلها. لكنه لم يكن حلا نهائيا ولا مرضيا وجاء متأخرا بعد أن تدخلت تركيا وعصرت حلقوم القنينة أكثر فأكثر: تارة تمنع السجائر وتارة أخرى تمنع المواد الغذائية وفي ثالثة تتقشف بالمواد الكهربائية ورابعة تدقق في صلاحيات مواد البناء وهكذا تدور اللعبة السياسية ما ان يفتح أحد فاه أو يستنشق بلا إذن.
أكثر من نفط مهرب
لكن تركيا لا تمانع من دخول قوافل النفط العراقي المهرب عبر إبراهيم الخليل مهما كان حجمه حتى لو سال نصفه في الطريق الذي تعانق جوانبه شاحنات مقلوبة بسبب الزلق المهرب متحولة الى كتل منبثقة على رغم مشيئة الجبل المكتوي والمسود بنارها. فلنستوقف هذا السائق الواقف بطابور شاحنات حسبها الذين من قبلنا بنحو 6 كيلومترات ولنر ما الأمر: > ماذا تحمل؟ - نفط. > من أين جئت به؟ - من كركوك. > هل لحسابك الخاص؟ - كلا . > لمن إذن؟ - لصاحب المال. > من صاحب المال هذا؟ - صاحب الملك؟ > بربك لا تتغيشم علينا! - صاحب الشاحنة. > هل تتبع لشركات أهلية؟ - نعم. > هل هذه الـشركـات كثيرة؟ - جدا. > ولمن تتبع في النهاية؟ - أصحابها معروفون. > قل لنا من هم؟ - لا أعرفهم. > طيب .. أنت ما لذي تحصل عليه؟ - أحصل على نسبة .. لكنها تتضاءل لأني أرش الفلوس طوال الطريق. > كيف؟ - في كل سيطرة عراقية أدفع وحتى داخل كردستان! > إذن ما الداعي من عملك طالما لا تربح؟ > ماذا أفعل؟! - قل لنا بصــراحة فــأنا لا أذكر اســمك ولــم أصورك. - كل السائقين يزيدون من كمــية النفط المسموح بهـا والتي تتحــملها الشــاحنة ونســتفيد من الفرق ببيعه بمعرفتنا هناك. كذلك نحمــل بعض المواد من تركــيا عــنــدمــا نــدخــل فارغــين لـنبيعها في الـــــــــعـــــــــــراق وبالـعــكس .. هــكذا فقط نمشي الأمــور وإذا ظلت على نسبتنا أحـــيــــانـــــا لا تــســـاوي حــتــــى مأكلنا في الــطــريق! حــل لــنا هــذا الــسائــق واحــد مــن الألــغــاز وليس كلها المتعلقة في نقطة العجائب هذه. ويبدو أن الجمــيع متــفــقون عــلى هــذه الآليــة لــذلك «يرش» السائـقون الأمـــوال طــوال الطـريق مثلما يرشون النفط الأسود على «طريق الشعب»!
المدينة الأم
> ولكن ماذا عن زاخو نفسها؟ - كانت قبل انتعاش إبراهيم الخليل قضاء صغيرا مبتهجا بشارع واحد. لكنها الآن زاخرة بالفلل والمطاعم الراقية والفنادق المتطورة وسمنت وزاد طولها وعرضها أضعاف ما كانت عليه قبل الحصار وتكاد تنافس المحافظة الأصل مركز دهوك من حيث العمران والسعة. ولا يختلف اثنان منطقيا بأن السبب يعود للكلمتين المنورتين: إبراهيم الخليل.
أثرياء الحصار
> هؤلاء يسمونهم هنا جيل أثرياء الحصار: مهربون ومتعاملون في الجمارك وتجارة الحدود غير الشرعية. لا أحد منهم يخجل من هذه المهنة ولا يفقه أو حتى يريد أن يسمع ماذا يعني غسل الأموال الذي يعد في الدول المحترمة جريمة تعادل التجارة بالمخدرات. فأموال التهريب تحولت الى سوبر ماركت ومعارض سيارات وفنادق ومحلات كمبيوتر وأجهزة إلكترونية وغيرها فمن يأبه هنا بالسؤال البلشفي المنقرض: من أين لك هذا؟ - فعلا، لا يوجد مبرر للخجل أو الحديث عن قوانين سعيدة في بلاد خرب فيها كل شيء، حتى السؤال عن هذا الأمر لا يعتبرونه سؤالا، بل مزحة من صحافي يحب التندر معهم. لذلك لا أحد يزعل منك لو تثير هكذا مواضيع وبالتالي لا تجد من يجيبك عن نكتة أذعتها بمبادرة منك. مهربون محترمون
هم إذن، أثرياء العهد الجديد .. وللإنصاف، ليسوا بتلك الغطرسة ويمكن حتى التجرؤ والدفاع عنهم بالقول ان أقدامهم مغروسة بتربتهم جيدا. ومهما كانت الأموال التي حولوها لحسابهم في الخارج بطريقة أو بأخرى ولكنهم بنوا في قراهم ومدنهم أيضا وحولوا الأموال التي ليس لها صاحب الى ما نستطيع تسميته بنية تحتية لمن تبقى منهم في البلاد. لم يقطعوا شرايينهم وأوردتهم تماما، فقد ساهموا في إطعام كردستان الجائعة وشغلوا العاطلين في مشاريع كثيرة واستقدموا شركات أجنبية وتحولوا من مهربين الى مستثمرين. هكذا الواقع الذي لا يمكن الضحك عليه أو تدبيجه بلف ودوران قانون العقوبات البغدادي المتروك بمتحف الشمع في واحدة من زوايا عاصمة السلام الجريحة.
الخازوقان
قلت فلأتخم نفسي بالحقائق السوداء فهي فرصة لاكتشاف المكان الآخر ولألقي بها طالما تفصلني عن القيامة تأشيرة وبصمة في الجيب. وكانت واحدة من الإجابة تفضي لأكثر الأسئلة تعقيدا: - كلنا يهرول فلا أحد يعرف من الذي يخبئه الغد. وتبين أن جميع المشتركين في ملحمة «باب الفتوح» يقفون على واحد من خازوقين: صدام و البديل! كيف يفهم ذلك؟ يركضون نحو الرزق السريع خوفا من أن يطب عليهم صدام وجيشه بمدة قالوا بأنها لا تتعدى ساعتين. وعند ذلك سيضيع كل شيء. وخوفهم الآخر من التغيير والعراق «الديموقراطي البرلماني التعددي الفدرالي ...الخ» الذي سينبثق منه علم ودستور ومجلس أمةٍ والذي سيفتح موانئه ومطاراته ومراكزه الحدودية الكثيرة وحتى لو لا يفرض سيطرته على إبراهيم الخليل، فان أهميتها الاستراتيجية الراهنة ستنعدم حتما بإحياء الشرايين الأخرى. لذلك فأن الحركة لا تتوقف مع وجود الشمس من عدمها ولا تعتمد على صفاء الفضاء ولا ترتبط بنقاء البيئة ولا بطاقة البشر أو البهائم ولا بقوانين نسيها حتى المحامون. هي نقطة كقلم الرصاص الوحيد في سجن شاسع، تبريه حتى آخر إتقان للقلق وانصراف غير متعمد للأحجية التي سيتناقل حكاياتها الرضيع الى الرضيع الذي ما أن يكبر مختالا بمشيته يجيب عن سؤال الأقرباء التقليدي: ماذا تحب أن تصير عندما تكبر؟ بتأتأة وبلا تردد وكأنه أورث الرؤى بكلمة ناصعة لا تحتقن عند ذكرها عين ولا تملي أي استنطاق: - مهرّب!