الأحد، 9 مارس 2008

دعوة لاستفاقة الزمان ما أن يشدو الماء





كردستان - د.جمال حسين علي:


أيشك أحد بشموخ قبعة شقلاوة الخضراء التي لا تفارقها ؟
أيستطيع أحد كبت عيونه من رؤية آنيات الزهور الحمراء التي تتدفق مع شلالات بيخال المصفوفة الشعر والتي تباغتك أينما نظرت ؟
أيمكن للحواس ان تغادر عطور وإلهاء وصبا العمادية وراوندوز وسرسنك وصلاح الدين وديانا ؟
ألا يعطي انهمار جدول كلي علي بيك من ثغرة في الجبل ساعة إثر ساعة بلا توقف منذ هدير السنين ، كمالا لطبيعة تعلق الأبصار وتدخل النفس وتملأ مقاعد الفرجة وترنح التمايل وتبدل العادي وتسطع الضوء في الوحدة وتمحو ملامح العابس وتزهو الحالم وتقول للزمان : أرجع يا زمان ...
مالنا نريد للزمان أن يرجع على عقبيه ؟
مالنا نريد إبطال حركة أقدامنا ؟
مسوقون بالمحال سارحين مع هدير" السيدة " لزمان أولئك الجميلين ، زمان السعة والرحبة والمرور الذي لم يدوم.
تكفيك دقائق شلالات " كلي علي بيك " ومثلها في " بيخال " لتنزح عن روحك وتنزع منها كل أشباح ربع القرن الضائع من بين يديك : هنا روحك انتفضت مثل ريش استعاد نجواه بالغريزة ؛ وها هي الضحكات قادمة ، تشع من أي بذرة في الجبل ، تتسلل من حولك لتستحيل دارك الضائعة وساعتك الآزفة.
فلنترنم بأغان الغرام الأول ، دفئا فوق دفء
على نسمات النبات وعسر التعرف الأول
وعبر فيض ضفاف الأغنيات وشدوها المطالب :
كن وميضنا البراق وأرجع يا زمان !

قالوا لي : تعمل عشرين ساعة في اليوم عليك أن تستريح.
بلا طائل أن تشرح لصحافيين مثلك أن عملك هو راحتك. لكن الزملاء الشيقين في جريدة " الاتحاد " و " كردستان نوي " عرفوا العقدة ووضعوا بها المنشار بهذه الحجج المهنية الى حد بعيد : أولا ، اليوم جمعة. وكل شيء معطل في البلاد. لا وزارات تعمل ولا أحزاب وحتى حملة السلاح أركنوه وذهبوا للمساجد. ثانيا ، أن سفرتنا اليوم تقليد سنوي ولا يمكن أن تعاد بوجودك على الأرجح. ثالثا ، أليس رؤية الناس المبتهجين والمصطافين والمستريحين عملا لك وتكملة لأسئلة قد لا تحتاج لذكرها ؟
الحجة الثالثة كانت الأقرب بالطبع وكنت مصرا وقتها على إثبات المسألة الأهم : عودة الزمان.
حين يطنّ الخريف
فرصة كانت بالفعل لاستنشاق خريف السواقي وطنين النحل ووثبة الجبال وأهداب الحجر. وهكذا رافقت سيارتنا الرمانية التي لا تعرف التبريد موكبا من خمس باصات.
وكما لو كانت تتدحرج ، نزلت الرمانية برشاقة في عمق واد لم يكن سوى شرنقة خضراء يخوض فيها ماء من كل الاتجاهات دفعني للسؤال: أتتركون هذا التفجر الساحر وتقيمون في السليمانية ؟
أوغل سوران بنجاحه : ألم أقلك ؟
لا أعرف فقط كيف تعلم الماء شدو الطيور ؟
هذا الماء السابح فوق الحشائش والمرتطم بالخور والمتكور بين الصخيرات ، كيف ينزل قربنا بنفس صدى الأطيار ؟
الأواني تتوالد

بحركات سريعة لأيدي فوق الباصات وخارجها وبين النوافذ وخلال الأبواب لم تسعفني الساعة في عد الثواني التي انزلقت فيها كل الأواني التي كما لو كانت تتوالد فوق موائد أعدت بأكثر من سرعة صانعيها لتمتلئ بتلك الفواكه التي لم تصل الى معدتي منذ أوقات الجلاء.
لا حاجة للثلاجات للتبريد أو الحنفيات للغسل ، فقد رموا كل هذه المتع تحت أقدامهم حيث كان نهير صغير بحجم قفزة كهل ، هكذا رموا كل صناديق الفواكه والمشروبات مخلفين منظرا لم يسلسله تشكيلي بعد ولكي يمعنوا في الإغراء : بعد دقائق سيبرد وينظف كل شيء.

تمنيت لو تشفع عيني بالتحديق داخل الماء وهو يذوب في الأنامل التي تتناول بين الحين والآخر تينة أو رمانة أو عنب يرقص عنقوده قبل أن تقبله الشفاه الجورية.
نهر من ثمار ملونة ، صاف ماءه كأنه يسري لتشربه غابة زان وتيمم بذراته وجوه يخجل من احمرارها الزعفران وكل المنهمكات في دس أنوفهن بآخر صيحات التجميل.
داعب الأطفال الفواكه المرحة بالماء كما لو يرون سمكة لأول مرة. أجسادهم ثائرة تلطم الماء الناصع ومعه يبدون كدوحة فسيحة تصدر الضياء بلا انقطاع.

جمال المكان يصيح بأعلى صوته معبرا عن نفسه. ولكن ما أضيف عليه انبساط البشر وطبيعتهم الشفافة ورقيهم وخفة ظلهم وخطواتهم ودمائهم وأصواتهم. كأنهم غسلوا كل المرارة المحكمة في هذه البلاد بجدول صغير مشجعين الحسرة لتنطلق : آه .. لو تهب ريح الشمال على كل البلاد !
المئات المندمجون كلّ بما يحلو له ، المئات في مكان واحد لم يشعر أحد بمضايقة أحد آخر أو حتى لم يشعر به ، الجميع هنا يشعرون وكأنهم جالسون لوحدهم. فعندما لا تشعر بوجود جارك ، يعني أنه حريص على راحتك الى أعلى خلاص. تشعر أيضا بألفة البشر وكأنهم عائلة واحدة متناسقة الأطراف يكللها سقف وحيد.

بنى الذين من قبلنا سقائف متجاورة على طوال الجدول من جذوع أشجار ثبتت كأعمدة تغطي سقفها الحصران. ولأن أصحاب الدعوة جريدة تحتفل بذكراها السنوية ، فقد كان حظنا الجلوس مع رئاسة التحرير ورؤساء الأقسام والمحررين الأوائل. وما الذي ينتج عن هذا الجمع بعد الكأس الثالثة ؟ معروف وواضح ومثبت حتى في الدستور المستقبلي للبلاد : نقاشات سياسية ليس لها نهاية ؟ يا له من حظ ؟ لا بأس ، اشتركت في بعضها أما الآخر الذي دار بالكردية فقد منحني الفرصة لأستل كاميراتي وأتدحرج بين الصخور وألغي صفة المدعو وابدأ بالعمل لأن الاستراحة انتهت في السقيفة السياسية.

لأجلس على حافة النهير لتقطف عيني بعض الصور التي لا تعاد. ثمة شيء في المجرى ينمو ويتصاعد ، كانت أصوات تمسك بالأداء ذائبة في الأجساد ، لقد بدأ العزف الذي سرى في جوانح أي خلية تتدفق برنين زنابق الأثواب لتمنح هذا النهار النافح بباقة الورود المتأججة من كل زوجين أثنين انبعاث فرح الأقدام بما يطلقون عليها في كل اللغات بمؤانسة شديدة الصقل : الدبكة.
دارت بهجة الفتيات مرة وعاشرة بحلقة صاغوها بالتئام وخطوا عبر ضحكاتهن كل كلمات الفرح المفككة. يزهون برقصة الأجداد الصامدة وتأليف أقدامهن لشيء باعث بالتألق.
دفن صوت " السيدة " المنبعث من السقيفة الحوار السياسي ، فقد استسلم الجميع لنبرتها برخاوة الأنفاس التي تجري حول الرجاء الأخير المتاح :
عاوزنه نرجع زي زمان
قل للزمان
أرجع يا زمان !