الجمعة، 11 يوليو 2008

العربي المصلوب في كابول

مع كتيبة الصلب
" لم يبق سوى الكتابة "
- لوكليزو -

هذا أعنف موضوع والأكثر " إرهابية " أعمل به طوال 30 سنة من الشغل بالصحافة. ولعل كل هذه السنوات تقف عاجزة عن رسم الصورة الكاملة للجبل الواقعي الذي جثم على صدري وأحشائي منذ اللحظات الأولى التي بدأ فيها هذا التقرير الوقح ، القاسي الذي لم تخطه يدي ، قدر ما أنجبته هذه الحرب المهزلة ، بدون أية رحمة أو شفقة بالكلمات.
ها هي المغامرة ، بدأت بلا اكتراث ولا تفصيلات معدة مسبقا بالنزول من كابول نحو الطريق المؤدية الى باغرام.
بدأت كل الأشياء عادية في البداية وحتى مناظر الوهاد وصور القوم الذين حفظتهم من أخمص أقدامهم حتى وجع رؤوسهم. اليافطات نفسها وشعارات طالبان التي لم يحن الوقت بعد لرفعها من كل الجدران التي تتحمل اختراق مسمار : الموت لأمريكا ، الموت للمنافقين ، الموت … الموت ،، لا تنتظر عبارة أخرى غيرها وكأن هذا المطلب هو الذي يعطي البرد والسلام لهذه الأرض المملة.
ذلك الصباح الكابولي الندي ، الممتلئ لذة ودفئا يصحح مظهري يوميا مع شروق الشمس بعد السادسة ، بين نائم ويقظان ، أستر جيوبي وحقيبة اليد بكل ما أحتاجه لإكمال الصورة.
ما زال الوقت مبكرا حتى على الطيور والمواشي. وكانت كل الأقدار ترعى إحساس شاحب تملكني وهو أنني أمتلك هذه المدينة طالما أبسط جناحيّ عليها مع استيقاظ أول بلبل. وربما سهل هذا الوقت المبكر ودفع الشر عني حيث يهجع كل قطاع الطرق بعد انتهاء صيد الليل.
توقفت سيارتنا قبل الوصول الى باغرام بنحو 20 كيلومترا ، أي أنها فارقت كابول بحوالي 30 كيلومترا. قال لي رفيقي عبد الله وهو سائقي ومترجمي الذي تعلم الروسية لأسباب معروفة : أنظر الى تلك البقعة السوداء !
لم يسعفني لا النظر ولا البصيرة لمعرفة هدفه. التجأت الى منظار حربي يحمله عادة جنود الرصد كنت أحمله دائما مع عدة الشغل. قرّب لي كل المسافات ومع ذلك قلت له : ما الأمر ، هناك شجرة تطاوحها الرياح وعدد من الآليات المدرعة ومدفع رشاش، هذا كل ما أراه ،، ما الجديد في الأمر ؟
كرر عليّ السؤال : أنظر جيدا الى تلك البقعة السوداء ؟
وبعد انهمار كل بصري في المنظار عثرت على ملاءة أو خرقة سوداء تلف شيء غامض يستند على جدار عندها قلت له : هناك بعض الخرق السوداء رأيتها. ولكن هل تريدني أن أعمل تقريرا عن الثياب الوسخة ؟
كان استفزازي حاسما لكي يخرج ما في صدره : هذا طالباني مصلوب منذ اليوم الأول لدخول قوات التحالف الى كابول ، أي منذ شهرين وأسبوع. صلبوه في هذا المكان بالذات ومات لوحده بعد ثلاثة أيام.
بدأت كلماتي غير المترابطة تزدحم ولم أستطع التفوه بها كلها : من أين اخترعوا طريقة الانتقام هذه ؟ عملت مع مقاتلي التحالف الشمالي طويلا ولم ألمس منهم كل هذا العنف ! الآن وبعد أن امتلأت الدنيا هنا بجميع أنواع القوات الأجنبية ألا يستطيع أحد منهم إيقاف هذه الفاجعة ؟ في كل شارع أو منعطف ترى سيارات الهلال والصليب الأحمر ولم يكتفوا بذلك بل اخترعوا الصليب الأزرق وأجابهم الطرف الآخر فورا بالهلال الأزرق !! ألا تستطيع كل هذه الجحافل " الإنسانية " إيقاف هذه المهزلة؟
كان الجواب وحيدا على هذه التساؤلات : لا يستطيع أي مخلوق على أرض أفغانستان الدخول الى قرية كارزامير والخروج منها حيا. ولابد من التأكيد في حالة انبعاث ظنون ما على أننا نمتلك كل هذه الشجاعة بأن هذه الحقيقة السامة عرفناها فقط عند خروجنا أحياء من القرية ولو كنا نتصورها فقط قبل دخولنا لكان الأمر يحتاج الى بعض التردد أو الخوف.
ولعل الوقت المبكر أفادنا جدا لغياب قطاع الطرق ، غير أنه لم يسعفنا في كل الأحول على اختراق حقول الألغام المزروعة في المنطقة. قال عبد الله : لا نستطيع الوصول الى هناك فالمنطقة ملغمة بكثافة.
أجبته : طالما يوجد أناس هناك وتدخل العربات والدراجات الهوائية والخيول والحمير والمواشي ، فلابد من وجود طريق آمنة.
سأل : وكيف نعرف طريقك هذه ؟
قلت : ببساطة. الطريق رطبة وتترك عليها آثار العجلات السابقة. كل ما عليك تتبع آثار هذه العجلات. كما أن الألغام المضادة للأشخاص لن تؤثر علينا وستصيب السيارة بأضرار فقط. أما الألغام المضادة للدروع فستهلكنا.
ولكي نوضح شدة الخطورة التي كنا نشعر بها هذه اللحظة بدأت بسرد وصيتي : تعرف غرفتي في الفندق .. وهناك الجميع يعرف بأنك مرافقي ، في حالة بقاءك حيا خذ كل حاجياتي الشخصية عدا الأفلام سلمها لأحد الزملاء لكي يرسلها الى الجريدة بناء على اتفاق مسبق.
كانت وصيتي " مهنية " الى حد بعيد ، فلا تحيات أو رسائل الى الأهل ولا خرائط لكنز أموال مخفي تحت البلاط ولا كلمات عشق لحبيبة معاندة ، كان ما يشغلني وقتها إرسال المواد التي عملتها بشق الأنفس الى الجريدة. بمعنى أن الصحافي .. الصحافي ؛ عليه أن يفكر في إرسال المواد الى جريدته أو مركزه حتى وهو ميت !!
انحرفنا عن الطريق العام ودخلنا الأرض الرطبة المزروعة بالموت. وبدون مبالغة انشغلت وقتها بالتقاط الصور متعمدا نسيان موضوع الألغام لأنه محسوم من الأساس طالما أن المرء يعمل في النقاط الساخنة.
كانت خطتي تسير بنجاح حيث آثار العجلات لم يمحها ندى الصباح أو حوافر خيول جائعة وقلقة. كل شيء سار كما أردنا حتى وصولنا الى تلة بنى عليها طالبان قاعدة لارتكاز قواتهم فيها كل مقومات الحياة : غرف متراصة ، مواقع دفاعية ، برج للمراقبة مطبخ وحمامات. ولكن وجود مسبح عصري كان شيئا جديدا تماما.
لحسن الحظ الذي اخترته بنفسي أن مرافقي كان طاجيكيا. وكان كل سكان هذه المنطقة الشديدي القسوة طاجيك أيضا. ولكي أضيف على المنظر دفئا طاجيكيا ارتديت الغترة ولباس الرأس الطاجيكي أيضا. وما أن تقدم علينا قائد المجموعة التي احتلت قاعدة طالبان وكان رجلا تجاوز الستين ويمتلك قوة جسدية ملحوظة ، حتى بادره عبد الله باللسان المشترك ، الأمر الذي غير عدوانية خطواته وملامح وجهه فالقادمون ليسوا أغرابا على ما يبدو.
استغرقوا بحديث باللغة الفارسية فهمت ربعه ، وكنا قد اتفقنا على إغلاق أبواب السيارة وإبقاء محركها عاملا وعدم الترجل منها حتى التأكد من تآلفهم معنا والأهم أكدت على أن يعرفني بهم كصحافي روسي مستغلا عمق العلاقات الروسية - الطاجيكية وتحالف موسكو معهم في هذه الحرب .
أراد الرجل إظهار أهميته بمحاولة التحدث بجهاز لاسلكي لا يفارق يده وربما لا يعرف استخدامه. وبعد موجات مشوشة أكدت على أن بطارية الجهاز تعمل سمح لنا بالنزول.
ما أن نزلنا حتى ظهر أربعة شبان مسلحون جيدا ، بادرتهم بمصافحة أيديهم حسب الأعراف وابتسامة لإذابة الغموض وكان رجل اللاسلكي مستغرقا في حديث لا يهم أحد مع مرافقي.
تظاهرت بانشغالي بتصويرهم كمنتصرين وتذرعت باهتمامي بالآليات الجديدة والمحطمة والغرف الفارغة من الحياة والمسبح الذي قالوا بكل فخر بأنهم ملئوا جثث طالبان به وتركوها لأسبوعين حتى جافت. أوصاف مدعومة بشواهد كراهية ليست لها حدود ، وكأنهم كانوا يتحدثون عن عملية إبادة حشرات. وفوق ذلك كانوا يتسابقون في الحديث عن دوامة العنف وانتصارهم المقدس حتى قربت نفسي وكأنني أرى المشهد الأسود في التاريخ لأول مرة وما أن هممت بتصوير المصلوب حتى شممت رائحة فوهة رشاشة مسني بها أحدهم دون أن يكلف نفسه منعي بطريقة ودية.
سألتهم ببراءة مصطنعة : ما هذا ؟
تندروا مع بعضهم وساعدني مزاجهم المرح لتأليف ابتسامة بلهاء جعلتنا جميعا أكثر غباء من أي وقت آخر.
كان هؤلاء الأربعة مع شيخهم واثنان آخران هم أبطال عملية صلب " الطالباني".
وأدى أسلوب تعامل الشباب معي الى لجوئي الى صاحب اللاسلكي لكونه قائدهم والأكبر سنا.
ركزت الحديث كله عن الجثة المصلوبة ولأنني " روسي " حرصت على أن تكون حججي " أرثوذكسية " وليست " إسلامية " وخاصة فيما يتعلق بإكرام الميت وضرورة دفنه.

لم تلق مواعظي الدينية إذنا مفتوحة ناهيك عن كونها صاغية. وعندما أدركت بأن الحجج " الأرثوذكسية " في طريقها الى النضوب ، أفهمتهم بأني على إطلاع بالإسلام كأي صحافي يعمل في ديارهم وساعدني ذلك في إيراد بعض الآيات والأحاديث التي تنبذ فعلتهم وإيغالهم في تعذيب الجثة.
ومع ذلك ذهبت كل أحاديثي الدينية مهب الرياح التي بدأت تسخن بالرغم من تظاهري بمودة خيالية تجاههم.
قال لي رجل اللاسلكي : كل ما قلته نعرفه أكثر منك. غير أن هؤلاء هدموا منازلنا وشردونا في كل أصقاع الأرض. سبوا نسائنا ويتّموا أطفالنا. تتحدث معي عن الدين وحرمة الميت ، سآخذك الآن الى مسجد القرية وعليك أن تصوره وتعرض للناس كيف دمروه لأننا كفرة ولا نستحق حتى هذا المسجد. سيبقى هذا الوغد ( يقصد الطالباني المصلوب ) شاهدا على كل من تسول نفسه للاعتداء علينا ولن نترك له حتى حفرة في الأرض ، لا نريد أن ندنس أيدينا وأرضنا بجثته ، سنتركه هكذا حتى يختفي.
أسعفتني عبارته الأخيرة بمدخل تبين فيما بعد بأنه حسم الأمر برمته. وسرعان ما وظفت " العامل الصحي " أو البيئي في القضية وبادرته كمن يفهم في هذه الأمور : دعنا من التعاليم الدينية والاجتماعية ، لكن ترك الجثة في هذا المكان سيعرضكم وخاصة أطفالكم الى مخاطر كثيرة. وبدأت أحصي له كل الأمراض المعدية التي عرفتها أيام الدراسة. وعندما أدركت بأنه إذنيه بدأتا تنفتحان أمعنت في تخويفه.


بعد انتهاء محاضرتي الطبية انحدر الحوار الى أسفل السافلين عندما سمعت عبارته التي كانت تمثل لي انتصارا حاسما : دفنه سيكلفنا كثيرا ، فهو لا يستحق أن ننفق عليه "أفغانيا " واحدا ( عملتهم الوطنية ).
قلت له بأنني سأتكفل بالأمر وبدأ التعامل على سعر الجثة : قل لي أي مبلغ تريد ؟
وفي أقذر حوار يجريه إنسان مع " إنسان " بدأنا نتعامل ونتفاصل حول المبلغ ، إلا أن أوصلته الى 10 ملايين أفغاني ( 300 دولار ) ، بشرط أن يدفنوه أمامنا.
خرجت في هذا الوقت من الصحافي لأتمم عملية دفن لجثة هي الأكثر تعذيبا ومهانة في هذا العصر. عندما ربطوا صاحبها على بقايا جدار بحبال غليظة كانوا يستمتعون بصرخاته ومن ثم بتأوهاته. كانوا يتجمعون حوله للنظر إليه كما لو ينظروا الى فيلم سينمائي ، يراقبون موته البطيء ،، يتبارون فيما بينهم حول الوقت الذي سيموت فيه … يتراهنون : سيموت في الخامسة … وآخر يقول لا سيموت ليلا … آه ربما نكون نياما ولن نراه يموت أمامنا … يقذفونه بالحجارة .. يتبولون عليه …
وفي واحدة من أكثر اللحظات طولا وبينما كنت في انتظار إجراء عمليات الدفن قال أحد الشباب : لماذا نكلف أنفسنا ونحفر له. وقال آخر : لا نريد جثته في أرضنا. واصطف الشيخ معهم بالرغم من اتفاقنا. ولم يكن أمامي مخرج آخر سوى القول : طيب يا رجال ، سآخذه بسيارتنا وسندفنه في مكان آخر.
ووصل الحوار الى طريق مسدود مرة أخرى ، لأنهم كانوا يخشون من افتضاح أمرهم خاصة بعد سماعي قول أحدهم : ستأخذه للصليب الأحمر أليس كذلك ؟
لم أجب عليه وشعرت وقتها بأني بلا حول ولا قوة حتى قال الشيخ الذي كان قد استلم العشرة ملايين أفغاني : هذا غير مسلم وليس بإنسان سنحرقه وانتهى الأمر.



خارت محاولاتي كلها وأخفيت ابتسامتي الغاضبة دموعي الهائجة. ساعدهم قرار الشيخ على العمل. جلب صبي حافظة للوقود وبدئوا صبه على الجثة وما أن مرت لحظات حتى كانت تحترق. صبوا عليها الوقود مرة أخرى لأنها لم تحترق كما كانوا يريدون وتضاءلت النيران تدريجيا. وقبل أن تنطفئ آخر شعلة في هذا الجسد غادرتهم دون أن أنظر إليهم أو ألقي عليهم التحية.
في اليوم التالي للمحرقة ، قررت فضحهم في كل مكان في كابول. غير أن أنانية الصحافي جعلتني ألوذ بهذا الخيار وأطبق عليه خازنة الأسرار. فما أن أتفوه بما رأيت حتى ينتشر في المدينة وخاصة بين الزملاء اللدودين ، وسيكتب عنه كثيرا خاصة لمن لا يعرف بالموضوع ، سيتناقل الصحافيون الإشاعات و سيقومون بتأليف القصص. أجبرتني الخبرة المهنية على كتم السر حال فضحه في جريدتي.
لكنني لم أكف عن جمع المعلومات عن الطالباني المصلوب وخلفيات مصرعه وهذه المنطقة الشريرة. غير أن ما تيقنت منه زاد من هول الصدمة والفاجعة : لم يكن ذلك الطالباني سوى عربيا كان يسكن منطقة مجاورة. دخلوا إلى منزله ليلة خروج طالبان من كابول وبدئوا التنكيل به بكل ما يمتلكون من شناعة. سحلوه حتى منطقة بلاندروز وعلقوه لساعات أمام الناس. ومن ثم صلبوه في المكان الذي وجدناه فيه ميتا منذ شهرين وأربعة أيام بكل ما يحمله هذا الرقم من عفونة. مصلوبا في مرتفع " زائر خان بارك " ، حتى الوقت الذي أحرقوه بفلوسنا.
تذكروا " زائر خان بارك " ولا تنسوا هذا الاسم أبدا
حديقة الموت ومسبح الجثث
لا تنسوا التعامل على سعر جثة العربي المجهول
لا تنسوا الرهان بين المنتصرين على موعد موته
لا تنسوا رائحة جثته المحروقة
لم أستطع العودة الى ذلك المكان لمعرفة هويته ، فعدا أسباب أمننا وسلامتنا ، أردته أن يكون في خاطري عربيا مغدورا ومجهولا ، بعيدا عن الاسم والهوية ورقم الوطن.