السبت، 12 يوليو 2008

روسيا على خطى الحرب القوقازية الكبرى

( 1 ) سلطة الجماعات
لم تكن ثمة سلطة في الشيشان قبل شن روسيا عليها الحرب للمرة الثانية ، ولم يتعد نفوذ أصلان مسخادوف أبعد من القصر الرئاسي. فالشخص الذي خاض الحرب مع الرعيل الأول من " الثوار " الشيشان وانتصر على أبطال الحرب في الساحة السياسية لم يستطع قادرا على قيادة الشيشان. وببساطة لا يحترمه القادة الميدانيون ويسمونه " العقيد الركن الذي يحارب بالخرائط ". ويبدو أن الطلب الذي قدمه شامل بساييف رئيس مجلس الشورى ( وهو منصب اخترعه لنفسه ) وقادة الفصائل المسلحة خنكار إسرابيلوف وسلمان رادوييف بإقالة مسخادوف ليس ملحا الآن. لأن مسخادوف لن يستقيل حتى آخر محاولة لاغتياله ! ومن الواضح أن صبر القادة الميدانيين بدأ ينفد وقد يتحول أي خلاف قادم الى مجابهة مسلحة صريحة ، لا سيما وان شورى بساييف تقود الشيشان عمليا. علما أن أعضاء المجلس المشكل من زعماء الجماعات الإسلامية يعتبرون أشخاصا متنفذين في مناطقهم ويخضع لهم الجميع هناك. وتشكل كل جماعة محكمة شرعية ويترأس زعيمها غالبا في آن واحد الإدارة الرسمية أيضا.
والجماعات الشيشانية مسلحة جيدا. فحسب معطيات وزارة الداخلية الروسية أخذت في الأعوام 1994 - 1996 من مخازن وزارة الدفاع ووزارة الداخلية وجهاز الأمن الفيدرالي في الجمهورية 40 ألف قطعة سلاح خفيف و 42 دبابة و34 عربة مشاة مدرعة و 139 مدفع و 165 طائرة ومنظومتين صاروخيتين مضادتين للطائرات. علاوة على 20 ألف قطعة سلاح آلي أحيلت في بداية التسعينات الى حكومة جوهر دوداييف نتيجة لـ " قرار سياسي ". وحسب الوقائع العملياتية يشتري الشيشانيون دوريا الأسلحة والذخائر من الوحدات الروسية المرابطة في شمال القوقاز.
والجماعات تنظم المحاكم الشرعية التي تنظر في كل القضايا الجنائية والمتنازع عليها وتحل قضايا الأحوال الشخصية وتمتلك فصائل مسلحة للدفاع الذاتي. وبالإضافة الى الدفاع ضد عدوان خارجي فأنها تهب لمساعدة " الأخوان " في الجمهوريات المجاورة وحراسة الآبار النفطية ومزارع المخدرات ومصانع تحويلها . حيث يجلب النفط والمخدرات دخلها الواقعي.
نفط ومخدرات ورهائن
خلال السنوات الثلاث الأخيرة ازداد في الشيشان عدد مصانع تكرير النفط ( الصغيرة ) من 30 الى 400 مصنع. أما عدد آبار النفط السرية فليس له حساب.
وكما يقولون في وزارات داخلية دول الجوار الشيشاني ، يزداد في كل خريف سيل المخدرات بانهمار شديد المفعول وبالأخص الهيروين من الشيشان. وإذا كان الشيشانيون يروجون المخدرات في داغستان ومقاطعة ستافروبوليه ، فأن سعاتهم الآن يوصلونها الى موسكو و فورونيج وأستراخان وإليستا. وتزداد المساحات المزروعة بالخشخاش ويبحث تجار المخدرات عن أسواق جديدة دائما. ويؤكد ممثلو وزارة الداخلية الشيشانية بأن 70 % من الجرائم تحدث بعد حالة الانتعاش التي تسببها المخدرات. وحسب رواية مسؤول في الداخلية الشيشانية ترتبط محاولة اغتيال مسخادوف التي نفذت في العام الماضي بثأر بارونات المخدرات في منطقة غودرميس بعد أن نفذت وحدات الداخلية أمر مسخادوف بإحراق مزارعهم.
والرهائن مادة أخرى لدخل القادة الميدانيين. ويكسب منها بشكل خاص عربي بارييف الذي ترابط فصيلته في عروس مرتان. فحصل ، مثلا ، مقابل ممثل الرئيس الروسي في الشيشان فالنتين فلاسوف 5 ملايين دولار. ووضع أنصار بارييف قاعدة أيدلوجية تحت تصرف هذا البيزنيس. ويحلو لبارييف الاستشهاد بآيات من القرآن الكريم الخاصة بالجهاد ضد الكفار بعد الانقضاض على كل رهينة ، غير أنه لا يردد هذه الآيات عندما يقبض ثمنها من أولياء الكفار !
ويحاول أصلان مسخادوف بغية المحافظة على سلطته جذب المعارضة الى جانبه. ودعا الى الحكومة للمرة الثانية خلال السنتين الأخيرتين أصلانبيك إسماعيلوف وعينه وزيرا للإنشاءات. واقترح على القائد الميداني خطاب قيادة إحدى فصائل الحرس الجمهوري. وعندما رفض خطاب هذا العرض طلب منه تدريب الأجهزة الخاصة الشيشانية على عمليات التخريب التي يتقنها خطاب جيدا من تجربته في أفغانستان. ووافق خطاب على الطلب الثاني الذي لا يؤثر على استقلاليته.ويخطط مسخادوف لدعوة بساييف للحكومة مرة أخرى . ولكن لا خطاب ولا بساييف مستعد للعمل تحت جناح الرئيس ، فهم الذين فتحوا الشيشان وسيفتحون داغستان أيضا.
الكونفدرالية العظمى
قال شامل بساييف في إحدى جلسات الشورى الأخيرة : " الآن لسنا بحاجة الى استقلال الشيشان. فنحن بحاجة الى استقلال كل شمال القوقاز. وستكون لنا كونفدرالية عظمى ". وصرح الزعيم الشيشاني الآخر مولادي أودوغوف جهارا بأن الحرب في داغستان لابد منها لإقامة الجمهورية الإسلامية هناك.
ولقد بدأت " الثورة الإسلامية " في منطقة الحدود الشيشانية - الداغستانية منذ عام ونصف. وكانت الحرب غير المعلنة بين القوات الروسية والإسلاميين مستمرة منذ ذلك الوقت. وحسب معلوماتنا فأن الفصائل المسلحة التي استولت على القرى الداغستانية مؤخرا تخطط لإثارة التمرد المسلح في العاصمة محج قلعة في الشهر القادم. وقد نقل من أجل تحقيق ذلك 600 إسلامي الى منطقة بوتليخسكي الداغستانية عبر القرية الشيشانية الجبلية كنخي وسينقلون فيما بعد الى محج قلعة فرادا وجماعات. وينون قبل إعلان التمرد في العاصمة الداغستانية تنفيذ هجمات على مؤسسات الطاقة والوقود لغرض شلها وسيحاولون الاستيلاء على محطة ضخ النفط في أزبيراش لتمويل الحملة بالطاقة اللازمة والسيطرة على الطريق الذي يربط محج قلعة وجروزني.
ويؤكد رئيس اتحاد مسلمي روسيا نادر خاتشيلايف على أن 30 % من القرى الداغستانية تطبق الشريعة الإسلامية ويزداد عددها من يوم لآخر.ولم تنتشر هذه القرى في المناطق المتاخمة للحدود الشيشانية فحسب ، بل في مناطق في العمق الداغستاني أيضا مثل منطقتا أكوشينسكي ويويناسكي. وأعلنت القريتان الجبليتان قره ماخي وتشبامماخي نفسهما جزءا من " الجمهورية الإسلامية المستقلة ".
وتضطر السلطات الداغستانية مماشاة هذه الظاهرة بحذر وقلق شديدين.وحاولت تجنب المصادمة مع شيوخ وزعماء هذه القرى. ووقع ممثلو الحكومة وإدارات المناطق مع الجماعات الداغستانية اتفاقية في العام الماضي نصت على منح الناس حرية اختيار العقائد الدينية التي يختارونها وخرج بموجبها عشرات الإسلاميين من المعتقلات وشطب أكثر من 1500 شخص من قوائم التحري.
وجرت في يوليو بمبادرة من نادر خاتشالايف أول جلسة للمحكمة الشرعية ، دعوا إليها رئيس مجلس الدولة في داغستان محمد على محمدوف ورئيس الحكومة حزري شيخ سعيدوف ونائب رئيس مجلس الشعب أرسين كامايف.
ولكن لم يحضر الجلسة أحد غير خاتشالايف واضطر الى تأجيلها الى سبتمبر. وينوي إعلان مواد غرفة الرقابة العامة التي راجع أعضائها القضايا المالية للحكومة في السنوات الخمس الأخيرة.
( 2 ) جمهورية الفساد
هذه أمثلة للاستهتار بالسلطة والفساد في داغستان والتي تعتبر أهم عامل في تخلف الجمهورية الاقتصادي والاجتماعي والتي أدى بها لأن تصبح حقلا للتجارب السياسية والعسكرية ومرتعا للثوريين ورجال المخابرات والعصابات المسلحة وتجار المخدرات والبشر وغيرهم :
في عام 1995 حول الى المصرف الموسكوفي " أوبو فينانس " 62 بليون روبل لتمويل ما أطلق عليه " صندوق استقرار اقتصاد جمهورية داغستان ". ولكن حكومة داغستان أدخلت 15 مليون روبل فقط الى حسابها الى مصرف " أورو بنك " . وحتى هذا المبلغ لا يوجد في دفاتر حسابات الحكومة ما يدل على إنفاقه . وعلى النحو ذاته تم تحويل 334 مليون دولار في الأعوام 1994 - 1997 الى داغستان ولكن المبلغ وجد في باريس بعد تحري طويل. وليس من المستبعد أن جزءا من هذه الأموال وقروض صندوق النقد وجه بعد " تدويرها " الى الحملة الانتخابية.
وقبل سنتين تم تحويل 300 مليون روبل من وزارة المالية الروسية الى مصرف " ليسبروم بنك " ( البنك الموكل لحكومة داغستان والذي أسسه محمد سلام أبن الرئيس محمد علي محمدوف ). وكان على الحكومة الداغستانية أن تشتري مقابل هذه الأموال سيارات من مصنع " غاز " وتبيعها لتوجه حصيلة العملية لتطوير المرافق الحيوية والبلدية والاجتماعية في الجمهورية. غير أن هذا المبلغ اختفى ولم يعثر موظفو غرفة الرقابة على أي أثر في دفاتر حسابات الحكومة !
وتعتبر نسبة الجريمة في داغستان هي الأعلى في روسيا الاتحادية . وهناك لا يقتل رجال الأعمال وحدهم كما يحصل في موسكو ، بل الموظفون والنواب وحتى رجال الدين الذي انخرطوا في المافيا المحلية. وارتكبت 10 محاولات لاغتيال عمدة محج قلعة أميروف وتحول في واحدة منها الى مقعد. وأجرى فلاديمير كوليسنيكوف النائب الأول لوزير الداخلية الروسي في العام الماضي في الجمهورية " تطهيرات واسعة النطاق في الجمهورية وفتحت نتيجتها عشرات القضايا الجنائية ".
واقتصاد داغستان يرثى له : تبلغ نسبة البطالة 70 % . وتعيش " الولاية الروسية " على المعونات الاتحادية بنسبة 85 % لأن كل شيء هناك معطل ؛ المصانع والمعامل وورش الإنتاج والتصليح والحقول ، كل شيء تماما !
ولكن السلطات المحلية تمني نفسها بالنفط في الماء ؛ فقد اكتشفوا قبل سنتين في بحر قزوين أربعة أجرف قارية يقال بأنها غنية بالنفط . وشاركت في هذا الاكتشاف الشركتين الروسيتين العملاقتين " لوكويل " و " غاز بروم " وبعض الشركات الأجنبية العريقة في هذا المجال. ولكن بقدرة لا تصدق فازت شركتان داغستانيتان على هذه الشركات التي لا تُنافس بالرغم من عدم امتلاكها الأموال لاستثمار مشاريع ضخمة كهذه !
هذه الأمثلة عينات قليلة جدا مما يمكن أن يذكر في متابعة صحفية ، ومن المؤكد أن نادر خاتشالايف يمتلك في ملفه أكثر منها بكثير سيعلنه في الشهر القادم إذا رفضت السلطات الحضور الى محكمته الشرعية . وهذه لا تكون سوى البداية كما قال خاتشالايف لنا عبر هاتفه الجوال الذي كان يصرخ بألم عبره وهو السياسي المدرك للعواقب التي تنتظر داغستان. فالإسلاميين يثقون به جيدا واحتضنوه في الشيشان منذ ستة أشهر بعد أن لاحقوه بشتى التهم ( بعضها حقيقي ) ورفعوا حصانته البرلمانية ( نائب في الدوما ) وشنوا ضده حربا إعلامية يتحول بعدها أي إنسان الى ذئب جبلي.
ولا تريد السلطات الداغستانية ( والروسية عموما ) أن تفهم بأن الزعيم الإسلامي محمد بهاء الدين الأكثر ثقافة وعمقا وحماسا مما يتصورن يحظى بتأييد منقطع النظير في الشيشان واكتسب من الشعبية في داغستان ما لم يصل إليه أحد قبله بعد أن اقتحموا القرية التي يسكنها في مارس 1997 ونكلوا بشبابها‍ وأهانوا شيوخها وساقوا من وقع تحت أيديهم الى المعتقلات . وتحول هروب بهاء الدين الأسطوري الى الشيشان بعد أن اخترق الطوق الأمني الكثيف حول القرية الى أسطورة يقارنها الناس هناك بهجرة المسلمين الأوائل‍.‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍
لماذا بعد أن عانى الإسلاميون ما عانوه من فقر واضطهاد وفساد لا يحجبه الغربال لا يرفعوا شعار سقوط هذه السلطة ( الموالية لموسكو ) وتقديم شرعية جديدة ؟
لقد هيئت السلطات الداغستانية التربة الملائمة للبديل. وكان الشيشانيون بانتظار ساعة الصفر ولحظة الحقيقة وكانت أحداث قره شايغو شركسيا تنضج يوما بعد آخر‍.
( 3 ) حريق الشركس
كانت جمهورية قره شايفو - شركسيا حتى الآونة الأخيرة أكثر جمهوريات شمال القوقاز هدوءا. فقد أطفئ " الحريق الأول " هناك مع أدنى مستوى من الخسائر في عام 1995 عندما اكتشفوا فجأة بأن الجمهورية تسير بلا دستور و‍ لم تجر في الجمهورية انتخابات للبرلمان ولرئيس الجمهورية . عندها وقعت العلاقة بين المجلس الأعلى القديم ( البرلمان ) والرئيس المعين من موسكو فلاديمير خوبييف في مأزق وعاشت الجمهورية فترة من الاضطرابات. وشكلت على عجل بمبادرة من إدارة الكرملين لجنة التوفيق أخذت على عاتقها تأليف دستور وشكلت هيئات سلطة وشكلوا الحكومة وانتخبوا بأنفسهم نواب البرلمان ‍.
‍ غير أن القصة مع الانتخابات الراهنة لرئيس الجمهورية أحيت الصراع الداخلي. لأن ظهور فلاديمير سيميونوف القائد العام للقوات البرية الروسية في المضمار السياسي للجمهورية ( فاز في الانتخابات التي جرت في 16 مايو ولم يعترف منافسوه الشركس بنتائجها ) سيهدد المسؤولين المحليين بفقدان السلطة والملكية التي وعد سيميونوف بإعادة تقسيمها‍. حيث أكد في سير حملته الانتخابية بإعادة النظر في نتائج الخصخصة والتي حازت السلطات نتيجتها على 3 % من الأملاك العامة فقط. ونشأ خطر كبير في تسليط الضوء على فضائح كثيرة حال مجيء سيميونوف الى الحكم.
والسلطات المحلية والموسكوفية على السواء لا تريد إعادة التقسيم هذه لأن صلات المسؤولين المحليين ترتبط بديوان الرئيس الروسي والنيابة العامة. وحاول سيميونوف إقناع موسكو بأنه لن يساوم في هذا الأمر .
واعترف فالنتين فلاسوف الذي عينه بوريس يلتسين حاكما وممثلا عنه في الجمهورية ( ذكر أعلاه بمناسبة اختطافه عندما كان يشغل نفس المنصب في الشيشان ) بأن المسؤولين المحليين مستعدون لتقاسم السلطة ولكنهم غير مستعدين لتقاسم الملكية.
وحاولت موسكو إخفاء الأسباب الحقيقية لعدم الرغبة في " تقاسم السلطة " في الجمهورية مع الجنرال سيميونوف بالأسلوب المجرب القديم بإعلانها أن هذا النزاع هو ما بين القوميات. وكان تفسير الأمر بسيط ، لأن نسبة 80 % من الملكية والمناصب الرفيعة في الجمهورية وقعت في أيدي النخبة الشركسية . وهذه النخبة هي التي أثارت الاضطرابات الجماعية في الجمهورية بعد فوز الجنرال بالمرحلة الثانية من الانتخابات الرئاسية والتي وصلت الى تهديد الشركس بالانفصال عن الجمهورية تمهيدا للخروج من نطاق روسيا الاتحادية برمتها.
وقام الكرملين بدور حاكم الصلح في النزاع بين الشركسيين والقره شايفيين ( أو القَرَش ). وعارضت المحكمة الروسية العليا فورا قرار محكمة الجمهورية التي اعترفت بفوز الجنرال سيميونوف بالانتخابات.
وعدم اعتراف المحكمة الروسية العليا لا يلغي قرار محكمة الجمهورية ومع ذلك حاولت موسكو استخدامه لصالحها. وبرز في الكرملين سيناريوهان لتطور الأحداث ، يقضي الأول بتغيير نموذج ( موديل ) إدارة الجمهورية. وبواسطة ذلك يمكن إلغاء الخطر الذي يمثله سيميونوف. والثاني إعلان حالة الطوارئ في الجمهورية بسبب الاضطرابات الجماهيرية.
وأظهرت حوادث الأسبوعين الأخيرين بأن تحقيق السيناريو الثاني أسهل للكرملين . لقد ضربوا ثلاث من أنصار سيميونوف بشكل قاس في شوارع مدينة شركس ونقل أحدهم الكسندر بيلانوف الى غرفة العناية المركزة وهو الآن بين الحياة والموت. واتهم الشركس بتنفيذ هذه الاعتداءات . غير أن القَرَش لم يقوموا بأعمال جوابية بأمر من سيميونوف.
واستعدت الميليشيا المحلية لمواجهة أعمال العنف. ولا يخفى على أحد بأن كمية الأسلحة في شمال القوقاز وحتى في قره شايفو - شركسيا الهادئة كافية جدا لاندلاع حرب أهلية ضارية. وحسب بعض المعلومات الأمنية فقد وردت الى الجمهورية فور إعلان نتائج المرحلة الثانية للانتخابات دفعات من الأسلحة من مقاطعة ستافروبوليه وتنتظر إمدادات مماثلة من الشيشان وأبخازيا ويهيئ السكان الشركس أنفسهم لحرب طويلة بتخزين الأكل والمواد التموينية.
ولا يجلس القَرَش بدون فعل شيء ويقولون بأن شراء الأسلحة أمر غير مقعد في روسيا وأن موسكو خدعتهم و " إذا لم تعترف المحكمة العليا بفوز الجنرال سيميونوف فنحن مستعدون لكل شيء ".
ويبدو أن القَرَش يستعدون للحرب بالفعل ولن يستطيع أحد ولا الجنرال سيميونوف من إيقافهم . وعموما فأن الاستعداد للحرب انتهى عمليا ولم يبق غير تقريب عود الكبريت من برميل البارود وفي الكرملين يتهيئون لإعلان حالة الطوارئ في الجمهورية.
ولموسكو أصبح حساب آخر بعد اندلاع الحرب في داغستان ، لأن حربا جديدة في القوقاز ستتجاوز كل توقعاتها وإمكانياتها. فقد أعلن البلقاريون من جمهورية كبردينا - بلقاريا المجاورة استعدادهم لمساعدة القَرَش. وسيساعد القابرديون الشركس . وحسب المعطيات الرسمية فقد يتم إرسال 100 مقاتل تقريبا يوميا الى الحدود مع قره شايفو شركسيا أثناء الاضطرابات في الجمهورية . كما أن الشيشان والأبخاز على استعداد لنجدة الشركس في أي وقت.
ولن تقف جمهورية أديغيا على الحياد ، حيث سيتحول استياء الأديغيون من الروس المحليين الى مرحلة أكثر فعالية. وإذا حدثت مواجهة ما فأن المتطوعين من كل مكان في القوقاز سيهرعون لمساعدة الأديغيين ضد الروس . وفي هذه الحالة لا تستطيع موسكو السكوت " لحماية الأقلية الروسية هناك " وستفتح جبهة ساخنة أخرى .
( 4 ) لهيب الأبخاز
لا يترصد روسيا خطر حرب قوقازية كبيرة على أراضيها الخاصة فحسب ، بل من الجهة الأخرى من جبال القوقاز حيث يحترق بلا لهيب منذ سنوات فتيل النزاع الجورجي - الأبخازي غير المحلول. ولم تأت محاولات المجتمع الدولي وهيئة الأمم المتحدة ورابطة الدول المستقلة وروسيا في إجبار تبليسي وسوخومي للجلوس وراء طاولة المفاوضات بثمار ملموسة.
وهذه الحالة خطرة بالنسبة لروسيا لسببين : أولا ، أن روسيا ستفقد جورجيا بلا رجعة مع عدم وجود أي تقدم في تسوية الأزمة. وتعتمد مواقف تبليسي كلها على موقف موسكو من سوخومي. وتصريح الرئيس الجورجي أدوارد شيفرنادزه بضرورة عقد مؤتمر دولي لمناقشة مشاكل القوقاز يدل على أن ثقته بموسكو قد تلاشت.
ثانيا : أن تخلي روسيا عن أبخازيا سيغرق الإقليم بحرب عرقية ستنجر إليها روسيا حتما وستجد نفسها مشتركة في حرب قوقازية واسعة النطاق.
وحسب الصحف الجورجية فأن 300 من المقاتلين الأبخاز وصلوا الى قره شايفو - شركسيا . علما أن الشركس والأبخاز والقباردين والأديغين الساكنين في قره شايفو - شركسيا هم أقوام شقيقة للأبخاز ( خلافا للقَرَش الذين ينتسبون للمجموعة التركية ) . وكانت شركسيا خلال الحرب الأبخازية بمثابة الجبهة الخلفية التي كانت تعد المقاتلين الذين حاربوا القوات الجورجية. وفي حالة نشوب الحرب الأهلية في قره شايفو شركسيا لابد وأن يعيد الأبخاز الجميل لأخوتهم الشركس لمساندتهم في حربهم ضد الجورجيين . وإذا اندلعت الحرب بين الأبخاز والجورجيين فأن الشركس سيهبون لمساعدة أخوتهم في أبخازيا . وفي كل الأحوال ستجد روسيا مواطنيها في هذه الحرب. وإذا كان القَرَش قد التزموا الحياد في الحرب الأبخازية الأولى وسمحوا ساكتين بمرور الشركس عبر ممراتهم الجبلية لنجدة الأبخاز في عام 1992 ، فمن المشكوك فيه أن يعبروا الآن هذه الممرات بدون عوائق.
( 5 ) حرب السنوات السبع
صرح رئيس إنغوشيا روسلان عايشف عن رفضه لإجراء المباحثات مع قيادة أوسيتيا الشمالية لتسوية النزاع حول منطقة بريغوردني وإقامة إدارة اتحادية هناك. وهذا يعني أن إنغوشيا وأوسيتيا الشمالية ستجدان نفسهما على حافة حرب جديدة.
وكان النزاع الأوسيتي - الإنغوشي قد اندلع في عام 1992 واعتبر أطول نزاع في شمال القوقاز. وتعود جذوره الى التاريخ البعيد. وكان جزء كبير من فلاديقوقاز ( عاصمة أوسيتيا الشمالية ) ومنطقة بريغوردني حتى قبل السلطة السوفيتية أراض إنغوشية. وفي الأعوام 1924 - 1934 دخلت بريغوردني ضمن قوام إنغوشيا الذاتية الحكم. وبعدها أصبحت ضمن جمهورية شيشانسكي - إنغوشسكيا السوفيتية الاشتراكية ( في العهد السوفيتي كانت الشيشان وانغوشيا في جمهورية واحدة ذاتية الحكم وفي عام 1992 أعلنت انغوشيا انفصالها عن الشيشان). وبعد قيام الزعيم السوفيتي بتهجير الشعب الشيشاني لاتهامه إياه بمساعدة النازيين ألغى الحكم الذاتي لجمهورية شيشانسكي - إنغوشسكيا في عام 1944 وأحال منطقة بريغوردني الى أوسيتيا الشمالية. وبعد وفاة ستالين أعيد الاعتبار لهذه الجمهورية ومعه الحكم الذاتي ولكن بدون هذه المنطقة.
بدأت الحرب من أجل بريغوردني في أكتوبر 1992 ويوجد حتى الآن اللاجئين الإنغوش على حدود هذه المنطقة وإنغوشيا ( حسب البيانات الانغوشية يبلغ عددهم 67 ألفا ).
وحاولت السلطات الاتحادية حل هذه المشكلة أكثر من مرة . وفرضت حالات الطوارئ في الإقليم أكثر من مرة وحاولت القوات الروسية تسهيل عملية عودة اللاجئين مرارا لكن المحادثات بين الجانبين كادت تصل الى حافة الحرب نتيجة فشلها.
ولم يرفع فوز الكسندر دزاسوخوف في الانتخابات الرئاسية في العام الماضي حدة النزاع. وكان روسلان عايشيف يرحب بفوزه علنا في بداية الأمر حيث وعد في سير حملته الانتخابية الى مزيد من المرونة لحل المشكلة الانغوشية. غير أن الاصطدامات في الحدود لم تتوقف. ففي أكتوبر الماضي قتل الانغوش خمسة أفراد من الميليشيات الأوسيتية . ورد الأوسيتيون على ذلك بتدمير وإحراق عربات القطار التي يسكنها اللاجئين منذ عام 1992. وقال عايشيف وقتها : " بقى للحرب خمسة دقائق ".
وفي يونيو 1992 أعلنت فلاديقوقاز عن إلغاء عودة اللاجئين الى بريغورودني مفسرة ذلك بعدم امتلاكها القدرة على توفير الأمن لهم. ولم تنته المناوشات بين الطرفين وحرق البيوت والسيارات وأفعال الانغوش الجوابية خلال السنوات السبع. ويكفي هذا لاعتبار أن هذه الحرب لم تخمد بعد.
وحاول عايشيف أخذ المبادرة على عاتقه مطالبا مجلس الشيوخ الروسي ( رؤساء الجمهوريات ذلتية الحكم أعضاء فيه ) بالتدخل الفوري. غير أن رئيس المجلس ايغور سترويف لم يدرج هذه المسألة في جدول أعمال الجلسة الصيفية الأخيرة. ودعا الرئيس الإنغوشي الى جعل المنطقة المتنازع عليها تحت الإدارة الاتحادية وكف عن المطالبة بفلاديقوقاز كعاصمة لإنغوشيا.
وفضت موسكو الاشتباك الأخير كالعادة ، غير أن هذا لا يعني أن النزاع قد تمت تسويته خاصة وأن روسيا لم تجد أحدا بعد يفض اشتباكاتها مع الجيران الآخرين.