السبت، 12 يوليو 2008

حالة الجيش الروسي


ويعاني الجيش الروسي في الشيشان من حالة غريبة أيضا. ولا ينحصر الأمر في حرب الأنصار التي يواجه به تشكيلات صغيرة وخفيفة الحركة ومدربة جيدا فحسب ، بل تأمين رعاية القوات التي أدت واجبها وتعاني من البطالة والانحلال الخلقي.
كان السؤال : ما العمل بالجيش الآن ؟ يقلق العسكريين قبل السياسيين ، حيث يقع أغلب أفراد الجيش بعد انتهاء العمليات بوقت فراغ كبير جدا. ومن المعلوم أن الجندي يجب أن يكون منشغلا على الدوام بشيء ما ، لأنه لا يوجد أسوأ من جندي يمتلك حرية كاملة وبدون رقابة على تصرفاته.
و " جنود الشيشان " ليسوا بأولئك المطيعين الذين يمكن شغلهم بالسير كل يوم بلا معنى في ساحة التدريب. فمنهم الكثيرون من تجاوزوا سن الفتوة وجاءوا الى الشيشان على أساس التعاقد ( تقريبا نصف القوات في الشيشان ) وكانوا يحاربون بضراوة دون خوف حتى من الشيطان نفسه. وبعد كل ما ابتلوا به يستحيل إلهائهم بالمشي في ساحات التدريب. زد على ذلك تغيرت العلاقات بين ضباط الجبهة والجنود ، كونهم حاربوا في خندق واحد. لهذا يفضل الضباط أن يشربوا الفودكا من كأس واحدة مع الجنود بدلا من تدريبهم على السير. وأصبحت تشكيلة كبيرة من مائة ألف شخص تغرق في سكرة جماعية غير متحكم بها على الإطلاق.
سلاح وكحول
وعليه ، فمن المعروف عواقب توفر السلاح والكحول في يد واحدة ، خاصة إذا تعودت هذه اليد على السلاح. وثمة عوامل نفسية كثيرة وظروف الإحباط والضغينة والكره المتراكم لكل شيء يمكن ببساطة تجسيده بدفعة واحدة من رشاشة آلية مشوش فكر حاملها ، ومن هنا يصبح الجنود المتوحشين خطرين اجتماعيا ، ففي كل منازعة حتى في لعب الورق يلجئون الى البندقية بأسلوب وحيد تعلموا عليه : القتل.
ويصبح السكان المحليين قبل كل شيء ضحايا الجنود " الإرهابيين " الروس ، ولا تفرق لدى هؤلاء إذا كان أماهم شيشاني أو أنغوشي أو أستيني أو حتى روسي. لقد تشابك في ذهنهم مفهوم " العدو القوقازي " وترسخ في وعي العسكريين الروس بشكل لا ينفصم. فإذا كانت قيادتهم السياسية تعلن وعبر وسائل الإعلام بأن كل شخص من عمر 10 الى 60 سنة بغض النظر عن جنسه وقوميته ودينه ينبغي ترك المدينة ( غروزني ) في يناير هذا العام خلال اقتحامها ، فأن الجندي العادي يعتبر أية حركة لإنسان أو حيوان أو حتى شجرة موجهه ضده وعليه استخدام كل أساليب الإبادة المتوفرة لديه. فهل أصبح هؤلاء الجنود أفضل حالا اليوم ؟. لقد أثبت إنذار يناير في رؤوس الجنود حقيقة واحدة بسيطة استقرت في أدمغتهم الى الأبد وهي : يمكن قتل الشيشان. وحتى لو لم يكن الشيشاني عدوه فأن حياته لا تساوي شيئا لديه.
فمثلا ، أطلق النار حديثا من ناقلتي جنود مدرعتين تابعتين لقوات الداخلية قرب قرية برسوكي التابعة لمنطقة نزارنوفسكي في أنغوشيا على سيارتين مدنيتين من طراز " كمار " و " فولغا " بلا سبب وربما بسبب مضايقة مرورية عادية بعيدا جدا عن الجبهة والشيشان.
وليست هذه الحالة فريدة بالمرة. وبسبب ذلك نظم أهالي أرغون " انتفاضة " عفوية وسيطروا على كل الطرق المؤدية الى غروزني وشالي. وكان ذلك بسبب قذيفة مدفعية انطلقت من بطرية ميدان أفرادها في حالة سكر أدت الى تفجير بيت وقتل من فيه من سكان أهالي أرغون : روزا تراموفا ( روسية ) وزوجها حاجي باودي وجرح ثلاثة أطفال من سنة ونصف الى 8 سنوات.
رواتب القتال
ويعزي البعض سبب تدهور الناحية الأخلاقية للجنود الروس الى عدم صرف مرتباتهم المتفق عليها. وحسب تصريح رئيس هيئة الأركان الروسية الجنرال أناتولي كفاشنين فأن " جميع العسكريين سيتقاضون أجرة القتال وسيكون كل شيء على نحو مختلف ".
وتحتوي القائمة التي ألفتها هيئة الأركان المهام التي تعتبرها قتالية ويستحق أفرادها تقاضي المرتب وهي عمليات : الاستطلاع ، المناوبة ، إدارة المهام في الأراضي الواقعة جنوب نهر تيرك ( هل حل السلام في الأراضي شمال النهر ؟)، نشاطات المخافر على الحدود مع جورجيا ، إنزال الضربات بالطائرات ، تحليق الاستطلاع ، تأمين العُدد التفجيرية…
كلاب سائبة
وأشار الجنرال كفاشنين الى أن " وحدات غير كبيرة تقع في خطوط المواجهة ". ودقق رئيس هيئة الأركان الروسية قوله " القوات في خان كالا مثل الكلاب السائبة " ( أوردت وكالة الأنباء الروسية هذا الاستشهاد). ولذا يرى أن صدور شروط منح " الرواتب القتالية " سيجعل من الضروري جمع الكلاب السائبة من القرى الشيشانية وإرسالها الى الجبال حيث يوجد المقاتلين الشيشان.
لا توجد ضرورة للتعليق على الوصف الذي سمح رئيس الأركان الروسية لنفسه استخدامه لتصوير حالة قواته ، لكن المهم إدراك الجوهر: أن روسيا خسرت السلام ولم تنجح في تنفيذ حرب خاطفة وبات واضحا أن حالة المحاربين في القوقاز أصبحت عبئا على روسيا قبل غيرها.
وثمة ناحية أخرى لبدعة هيئة الأركان. ترابط في الشيشان بشكل دائم رسميا الفرقة 42 التابعة لوزارة الدفاع واللواء 46 التابع لوزارة الداخلية. أما الوحدات الأخرى فلا تدخل في قوائم هذه الوزارة أو تلك من ناحية صرف المرتبات. ويتقاضى الآخرين من غير الوحدتين المذكورتين مرتبات أقل عشر مرات من زملائهم الذين يتعرضون معهم لدرجة خطورة واحدة ! فهل يمكن الحديث عن توفير جو معنوي ملائم للجميع ؟
لقد خدعوا الضباط بمرتبات مغرية وشقق مرفهة حال توقف " العملية العسكرية المضادة للإرهاب " ، وإذا استمر الحال هكذا فلن تحتاج روسيا الى معاهدات على طراز خساف يورت مع أصلان مسخادوف أو غيره ، لأنه لن يبقى أحد يحارب في الشيشان ، سيتفرق الجميع راكضين نحو بناء مستقبلهم الشخصي نحو المدن العامرة وباستخدام الأسلوب الوحيد الذي تعلموا عليه : القتل.