الأربعاء، 3 سبتمبر 2008

انتفاض بخار السعادة


الصيف المنثور على بغداد ، كاد يجعلها قاحلة لولا الدرر المانحة إياها ملاءات العرافات ومعادنها المنسية وعصورها البالغة الملذات في مهبها اللازوردي المستوي كحلا على وهجها البارد في صميم سخونة الصيف المقبل لمجرد أنه صيف لا مثيل لرتابته وكسله وغباره إن شاء من يريد إطفاء مشاعله فليرسل حلوله عبر صندل قديم أو مزمار موعود أو تسبيحة شيخ في مقهى منبسط على النهر أو برنـّة سقوط الماء العمومي المختلج على ضحكات رواد أقدم حمام شعبي في العراق.
المتفلسفون للغاية يرون بأن الذهاب الى الحمام هروب الى الطفولة والمتدينون جدا يعتقدون أنه طقس للطهارة. وكانت الحمامات العمومية شائعة في أوقات الخلافة الإسلامية ووصل عددها في أيام هارون الرشيد الى 3400 ليصل عند مطلع القرن العاشر الهجري الى 27 ألفا في بغداد وحدها بينما كانت 5 حمامات فقط في قرطبة. وذكرت الحمامات كثيرا في الأدبيات العربية الشهيرة كألف ليلة وليلة والإمتاع والمؤانسة وقصائد أبي نواس وغناء جواري العصور الذهبية.
وطقوس الحمامات كثيرة ومعقدة ، خاصة لمن يدخله طالبا الطهارة المبينة بالشرائع ، فمثلا تدخله بالقدم اليسرى لتخرج باليمنى وهنا تبان عملية الانتقال من مرحلة الى أخرى يتحول فيها المرء الى كامل الطهارة يفسرها المثل الشعبي " دخول الحمام ليس كالخروج منه ".
حمام الحاج مهدي
هو أقدم حمام شعبي في العراق باق حتى الآن هذا الذي ترون صوره ، فقد أنشأه عام 1936 الحاج مهدي جد محدثنا عبد الله فائز مهدي الصفار الذي يشرف عليه هذه الأوقات.
يفسر عبد الله الإقبال الكبير على حمامهم لكون العراقيين القدماء يحبون الطراز التركي الذي يسير عليه نظام هذا الحمام ولكونهم يعالجون أمراض مزمنة يعجز الطب عن تلافيها كالروماتيزم وضغط الدم وحالات التشنج التي تصيب عادة المفاصل والرقبة والظهر ، فلديهم " خبراء " بالتدليك والمساج المبني على أصول علمية.
حدثنا عن مسيرة هذا الحمام وكيف أن وزراء مرموقين وباشوات وأغوات كانوا زبائنه كما الناس العاديين وكانت " وزرة " واحدة تلفهم وينسكب على أجسادهم ماء من مصدر واحد. يقول بأنهم كانوا بسطاء للغاية يتسامرون مع بعض ويتبادلون قطع الحلوى ويشربون " الدارسين " من كأس واحدة. فلهذا الشراب حسب عبد الله الصفار فوائد كبيرة لاسيما بعد الحمام الساخن أوجزها بأنه يجنب الإصابة بنزلات البرد ويعتبر منشطا للكبد ويقوي مناعة الجسم وخاصة ضد أعراض الفلونزا.
مساحة الحمام 480 مترا مربعا يتوسطه تمثال للحاج مهدي نحته النحات العراقي الأشهر خالد الرحال وأهداه للحمام ومن الواضح أن الرحال كان يقضي بعض من أوقاته فيه.
هيكلية الحمام
يعتبر حمام الحاج مهدي نموذجيا من وجهة نظر تنظيم وهيكلية الحمامات الشعبية في الشرق ، ففيه الصالة العامة التي تشبه المقهى الشعبي أو البهو حيث يتناول الزوار المشروبات الساخنة تحت قبته وثمة منازع اشتراكية وأخرى لمن يحجز غرفة خاصة به. وفيه ما يسمونه " الصحن " الذي يعتبر المحطة الثانية بعد الحمام الساخن ومسبح صغير للماء البارد لمن يرغب وثمة مكان يطلقون عليه " الحارة " يعالجون فيه آلام الظهر بمساعدة " خبراء " في العظام والتجبير بالإضافة الى غرفة المساج التقليدي.
مدمنون حمامات
الذي يديره الآن يقول بأن حمامه معروف جدا في الشام ولبنان ومصر حيث كان زبائنه كثر من هذه البلدان. ويؤكد على وجود رواد مدمنين لهذا الحمام وخاصة أولئك الذين كانوا شبابا أوقات ظهوره.
وعن زبائنه فيتراوح عددهم يوميا من 100 – 250 وقد يزيد هذا الرقم أوقات حجز الحمام بمناسبات الأعراس خاصة ، حيث يذهب الرجال مع العريس في قسمهم الخاص فيما يتدافع النساء عند بوابة " حمام النسوان ".
وأشار عبد الله الصفار الى زبائن جدد أفرزهم الوضع الأمني في العراق وأغلبهم ضباط كبار في الجيش والشرطة ، موضحا سبب وجودهم الدائم في حمامه لكونهم يخرجون في واجبات كثيرة في القرى والصحاري تكلفهم الكثير من الجهد والأتربة ولكونهم يعودون الى دوائرهم ووحداتهم العسكرية مباشرة لمتابعة واجباتهم ، فمن المتعذر عليهم تكملة اليوم وهم في حالة إرهاق واتساخ شديدين ، فيعرجون على الحمام بطريقهم مع جنودهم وشرطتهم ليأخذوا قسطا من الراحة ومزيدا من النظافة.
حمام الفضل
وآخر أنواع الزبائن هم أولئك الفقراء الذين لا يملكون شراء الماء ، بل لا يوجد لديهم ماء أصلا في بيوتهم ويكدون طوال اليوم في الشوارع كالمنظفين والحمالين والباعة الجوالين والذين يعتبرون الحمام المنقذ الوحيد للتخلص مما يحملون.
وجدناهم في حمام الفضل الواقع في المنطقة الشعبية البغدادية التي تحمل الاسم نفسه. ويعاني صاحبه توفيق هاشم من كثرة الرواد المفلسين وطلبات أهل الحي من مائه القليل الذي يشتريه بصعوبة ومن تخلف الحي الذي يقع فيه حمامه من الناحية الخدمية. غير أن ذلك لا يمنع الناس من إقامة حفلات النظافة لديه أوقات الأعراس حيث تختلط عليه الأمور لكثرة الداخلين الى الحمام المحجوز سلفا لقاء مبلغ مقطوع.
الحل المرضي
يبدو أن انتعاش الحمامات الثلاثة الكبرى في بغداد مرتبط جدليا ليس بالملف الأمني فحسب ، بل في الاقتصادي والنفطي والكهربائي والمائي أيضا. فالمدينة التي يزاحمها القيظ ويستنكر عليها الابتسام ذلك الغبار الدائم ، تواجه منذ أشهر طويلة الأزمة تلو الأخرى فيما يخص الخدمات الأساسية كانقطاع الماء والكهرباء واختفاء النفط ومشتقاته ، لتجيء الحمامات نوعا من الحل المرضي للذين ينبغي أن يكونوا نظيفين دائما أو حتى للذين لا يستطيعون أن يبقوا وسخين دائما.
فحتى ذلك الذي روّض معاشه وحسّن راتبه وهيأ له حماما جيدا في البيت ، لا يستطيع استغلاله لعدم توفر المقومات الرئيسية لاغتسال كامل ، فبرزت كما يقول عبد الله الصفار ظاهرة " الحجوزات المبكرة " في حمامه لكي يستطيع تنظيم رواده بشكل سلس نظرا للتدافع الكبير عليه لاسيما أوقات الظهيرة.
كثرة الزبائن تخلق معها مشاكلها أيضا ، فالحمام أيضا جزء من المنظومة العراقية المتخلفة مائيا ونفطيا وكهربائيا ، وما يعاني منه الناس في بيوتهم ، يندرج ضمن معاناة الحمامات أيضا ، لذلك وكما كل الناس ، يحصل أصحاب الحمامات على الوقود من السوق السوداء مضطرين وكذلك الماء الذي ينقطع كما يشح عن البيوت.
والأزمات حين تتكعب ، تخلق أزمات أخرى ، فسيارات بيع الماء لا تسير بالماء فقط ، بل بالبنزين الذي يحصلون عليه بسعر مضاعف ، لذلك فأن سعر الماء سيزيد أكثر فأكثر حتى وصل سعر ما يحتاجه حمام الحاج مهدي مثلا يوميا بنحو 50 ألف غالون الى ربع مليون دينار ( 270 دولار ) وهو مبلغ كبير ليس بالضرورة كافيا لتغطية تكاليف العمل والعمال والصيانة وغيرها مقارنة بالعائد المالي للمستحمين فلا تتجاوز أجرة الدخول 2500 دينار والتدليك 2500 والمساج 3500 بينما الغرفة الخاصة 3500 دينارا أو ما يعادل دولارين فقط.
مجد الحمامات
الارتباط بالمهنة هو ما حافظ على هذا المعلم التراثي بريقه واسمه ، فالذي امتدت به السنون ليصبح علامة في تاريخ مدينة لا يستطيع التنازل عن ذلك بتحويل النشاط أو إغلاق المكان أو التفكير بالربح المجرد ، كما هو تحليل صاحب الحمام الأكبر في العاصمة العراقية.
يضطر عبد الله لرفع أسعار الدخول لكي يحتفظ بالمكان واسمه وتاريخه وذكريات رواده الحاضرين والغائبين وهي مهمة حاول كما سرد ، توضيحها للمرافق الأقدم لصدام حسين وقتذاك أرشد ياسين حين جاء الى الحمام وطلب شرائه ليكون خاصا لـ " السيد الرئيس ".
رفض عبد الله بيعه أو استلام النقود وأوضح بأن هذا ليس مبنى عاديا في بغداد وهو تراثي وتاريخي ومعروف في المنطقة العربية وقال له بالحرف : إذا تريد أن تأخذه فخذه لكني لا أقبل النقود.
اصطحب أرشد ياسين محدثنا عبد الله الصفار الى صدام حسين وأعاد عليه ما قاله وأجاب صدام كما يتذكر الصفار : أحترم موقفك وانس الموضوع.
تقاليد وضوابط
عن تلك الممارسات الشاذة التي عرفت بها الحمامات العمومية يقول الصفار بأنه لم تحصل أية حادثة خرق في هذا المجال لأن زبائنه محترمون ويعرف بعضهم البعض والكثير منهم يصطحب أبنائه ليذكرهم بأيام شبابه ويعرفهم على أصدقائه وأن سمعة الحاج مهدي لا تسمح لأي شخص متطفل في التمادي أو التصرف غير اللائق لأن الآخرين سيمنعونه قبل تدخل الإدارة وهذا عرف استمر الحمام المحافظة عليه منذ عقود ولولا سمعته الجيدة لما اختاره المتزوجون حديثا وأسبوعيا للاستحمام فيه وتقوية التعارف ما بين العائلات المتصاهرة.
وعن الضوابط والممنوعات فقد اختصرها قبل سؤالنا إعلان مثبت في الصالة يمنع فيه أربعة أمور لا يربط بينها رابط : إظهار العورة والتدخين وجلب الفواكه وغسل الملابس !
دلالات حمـّامية
استرخاء الرجال والنساء ، شيوخا وعجائز ، فتيان وفتيات على الدكات الإسمنتية يسقط الندى على الأجساد ويكتل البخار المنزوي على العرق المتصبب في هذا المكان الساحر. ويمنح صوت التدليك والأنامل المروضة للعضلات المتعبة فرصة لنسيان اليوم المجهد للجندي والشرطي والحمال والمتخيل حنانات الأيام الغائبة.
جالسين أو منصهرين مع البخار ، مفرطين في تدارك العمود الفقري وتفتح الكروش والعجيزة الهرمة ، غاطسين بنواياهم في الماء البارد أو الساخن ، بخمر الظهيرة البغدادية والكلمة المتلوية في الفم ، يخرق صوت الماء المتدفق وضربات المدلكين ، أنين متباطئ سرعان ما يزداد لأبوذية ستهدم ما تبقى من حيل تحكي عن تلك البلاد التي كان فيها سبعة وعشرون ألف حمام ولم يبق فيها غير ثلاثة !