الأحد، 12 يونيو 2011

الكرملين وأزمةالكويت (11)

في أغسطس 1990 لم تكن لموسكو مثل هذه الاتصالات المكثفة في مسائل الأزمة الكويتية مع أي بلد من البلدان كما كانت مع الولايات المتحدةِ ولكنها كانت تجري كلها تقريبا على مستوى وزارة الخارجيةِ ويبدو أن البيت الأبيض شعر بأن انعدام تبادل الآراء الحي مع رئيس الاتحاد السوفيتي، وبالأخص في خلفية محادثات بوش النشيطة مع الزعماء العرب، يتطلب تعديلا سريعاِ وسيكتب جورج بوش فيما بعد:
'كانت هناك أسباب كثيرة للالتقاء بغورباتشوفِ أكد هذا في الدور الأول اشارتنا الى صدام بأن الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي تعارضان كالصخرة العدوانِ وكان لقاؤنا من هذه الناحية بحد ذاته خطوة كبيرة الى الأمامِِ
وظننت كذلك من المهم الاعتراف متظاهرا بأن للسوفيت مصالحهم الخطيرة في منطقة الخليجِ وكانت مسألة الاستخدام المحتمل للقوة حساسة للغاية، مما جعل الأمر أكثر الحاحا لكي يجري الحديث مع غورباتشوف من قبل وبدون أي تأخيرِ وكان يقلقني حدوث شيء من شأنه تعكير علاقاتنا قبل التحدث مع غورباتشوف وجها لوجه'ِ!
وطرح بيكر في نهاية أغسطس في احدى المكالمات الهاتفية مع شيفرنادزه فكرة اجراء اللقاء السوفيتي ـ الأميركي في مدى قصير لكي يكرس في بحث الحالة الناشئة في الخليجِ ووصلت في 30 أغسطس الى السفارة السوفيتية في واشنطن رسالة جورج بوش الى ميخائيل غورباتشوف تتضمن اقتراحا بعقد اللقاء في هلسنكي أو جنيفِ
لم يتردد الجانب السوفيتي في قبول الاقتراح أو رفضه، لا سيما ان الأزمة الكويتية دامت شهرا كاملا ولم تلمح فيها نهاية سلميةِ
تاليا، أعلن عن اللقاء في 2 سبتمبر وعين موعده في 9 منه في هلسنكيِ وأصبح الاعلان مفاجأة مثيرة وان حاول بوش في مؤتمر صحفي منظم خصيصا لتبريد التوقعات الاشارة الى أن موقف بغداد الراهن يستبعد حدوث اختراق دبلوماسي لتسوية النزاعِ
وما يثير الانتباه أن أحد الأسئلة الموجهة الى الرئيس من قبل الصحافيين دوى على النحو التالي: 'السيد الرئيس، هل يعلل لقاء القمة مسألة عدم موافقة السوفيت على أعمال الولايات المتحدة في منطقة الخليج وبالأخص شكوكهم حول نشر القوات هناك'ِ
لم يعترف بوش بطبيعة الحال في تلك اللحظة، بل أشار بالعكس الى درجة الوفاق الكبيرة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي ونوه بتوفر الكثير من المسائل التي تكون المشاورة بشأنها مفيدةِ
وطرحت أمام موسكو فورا مسألة عما سيحمله وفدها الى هلسنكي وبرزت في هذا الصدد الحاجة للحصول على معلومات جديدة عن نوايا بغدادِ لم تجلب رحلة سفير المهمات الخاصة ميخائيل سيتينكو الى بغداد أي نتائج عمليةِ فقد استمع بعد استقبال طارق عزيز له، الى محاضرة مسهبة عن 'حقوق العراق التاريخية' في الكويت وعتاب كثير حول موقف الاتحاد السوفيتي من مسألة ضم الكويتِ ولم يتسن الكشف عن أصغر البوادر في تطور وجهة نظر بغداد نحو الواقعيةِ بالعكس، اذا حكمنا بياناتهم الرسمية فقد كانت تحمحم دون الاشارة الى وجود نوايا لهم لتنفيذ مطالب مجلس الأمنِ
هل كان هذا السلوك الضاج والمتظاهر بالشجاعة متصنعا؟
كان من الواجب فهم ذلك على عتبة اللقاء في هلسنكيِ ولذا نشأت فكرة الاقتراح على صدام حسين ارسال مبعوثه المفوض على عجل الى موسكو لاجراء المشاوراتِ لكن قبل أن أحالت سفارتنا في بغداد هذا المقترح توجهت بغداد نفسها بطلب استقبال نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية طارق عزيز في موسكوِ اعتبرنا ذلك فأل خير، وأعطيت الموافقة فورا بطبيعة الحالِ
ها هي أسبابناِِ وقدرت الصحافة الأميركية من جهتها بالاجماع نبأ زيارة عزيز الى موسكو كمحاولة لدق اسفين في العلاقات السوفيتية ـ الأميركيةِ
التقيت بطارق عزيز في مطار 'شيريميتوفو ـ 1' ( كان هذا واجبي حسب قواعد المراسيم )ِ وكنت أعرف وزير الخارجية العراقي منذ عملي في نيويورك، حيث تكلمت معه أكثر من مرةِ تجاوز طارق عزيز الخمسين بقليل وعين في منصب وزير الخارجية في عام 1983 وكان قبلها وزيرا للاعلامِ وكان بشكل عام من الناحية المهنية صحافيا واقترب من صدام حسين عندما كان يحرر جريدة حزب البعث ويعتبر من أيديولوجيي البعث العراقيِ
اقتصر حديثنا في الطريق الى موسكو حول لقائه المقبل بميخائيل غورباتشوف، ونصحته أن يكون صريحا الى أقصى حد ويعير الاهتمام الأول لطرق تجاوز الأزمة واقعياِ
استقبل ميخائيل غورباتشوف، طارق عزيز في 5 سبتمبر في الكرملينِ وأجرى الحديث بدقة وبصورة هادفة وباقتران حسن النية اتجاه الشعب العراقي والعناية بمستقبل العلاقات السوفيتية ـ العراقية وعدم قبول ضم الكويت والقلق حيال نهج بغدادِ وحدد غورباتشوف منذ بداية الحديث هدفه: طلب التوضيح في حالة ظهور ظروف جديدة في موقف العراق تيسر البحث عن تسوية للأزمة السياسيةِ وفي غضون ذلك قيل بوضوح بأنه اذا ساهم العراق بشكل بناء في هذا البحث فإن النتيجة ستكون ذات معنى واحدِ واذا لم يساهم فإن الأمر سيتخذ سبيلا آخر يحمل أخطارا كبرىِ وقال غورباتشوف بأنه سيعارض أسلوب الحل العسكري، غير أنه لكي لا ينشأ هذا الأسلوب ينبغي أن يقوم الجانب العراقي بخطوات بناءة واقعيةِ
ما قاله عزيز
غير أن ما سمعناه من طارق عزيز كان موهن العزم: لم تكن بارقة أمل واحدة واقعية وبناءةِ واذا أسقطنا كلام العواطف والصداقة للاتحاد السوفيتي في حديثنا هنا، فإن موقف طارق عزيز الذي عرضه علينا يمكن حصره بالنقاط التالية:
ـ يعتبر جميع من في العراق ان الكويت جزء من الأراضي العراقية ولا يمكن التخلص من هذه الحقيقة أبداِ وحرص كل الحكام الذين تناوبوا على العراق على ذلك، ولو كانت لديهم امكانات وقوى مناسبة لتعاملوا مع الكويت بلا استثناء على النحو نفسه كما تعاملنا معهاِ
ـ اتخذ الفعل ضد الكويت لأن الولايات المتحدة وبعض الأنظمة العربية راهنت بجد على انهيار العراقِ
ـ سيتواصل نهج العراق السياسي على أساس المبادرة المؤرخة في 12 أغسطسِ
ـ لا تخاف قيادة العراق ولا شعبه من مواجهة الولايات المتحدةِ وفي العراق يثقون تماما بقوتنا، لسنا قليلي خبرة في قيادة البلد وفي شؤون السياسة الدوليةِ ننظر الى الأمام بلا تشاؤم وواثقون بأن المواجهة مع الولايات المتحدة ستثمر النجاح في نهاية المطافِ يصيب الأميركان الضلال عندما يتحدثون عن 'عملية جراحية' كما يسمونها، واذا اعتزموا على شيء مشابه فسيحصلون في النتيجة على نزاع طويل ومرير جدا لهم قد يقلب كل شيء رأسا على عقب في هذا الجزء من الكرة الأرضيةِ
ـ بلغ احتياطي الكره والغضب في العراق والعالم العربي بأجمعه ضد الولايات المتحدة وسياستها الموالية لاسرائيل نقطة حرجة، وجميع العرب مستعدون لهذه المواجهة التي قد تؤدي الى اصطدام واسع النطاق في جميع الخطوط ولكن هذه الآفاق لا تخيفنا فنحن ثوارِ
ـ يعز علينا الكيفية التي ردت فيها القيادة السوفيتية على الأحداث في منطقة الخليجِ ولا نعتمد بأن الاتحاد السوفيتي سيدافع عن العراق فنحن قادرون على القيام بذلك بأنفسناِ لكننا لا نريد أن يحصر الاتحاد السوفيتي المشاكل الحادة كافة في مسألة وحيدة وهي المسألة الكويتية، وأن يعارض التطرف الأميركي في المجال العسكري، وسيتوطد الموقف العراقي اذا أيد الاتحاد السوفيتي مبادرة صدام حسين المؤرخة في 12 أغسطسِ
لم يترك ميخائيل غورباتشوف بعض أفكار وزير الخارجية العراقي بلا تعليقِ بل قام بذلك باتقان وبشكل موزون، رغبة منه في عدم ايصال الحوار الى مرحلة حرجة:
قال الرئيس بخصوص الشرق الأوسط: يبحث الاتحاد السوفيتي منذ زمن بعيد وباصرار عن الطريق لحل أهم المشاكل في الشرق الأوسط وقبل كل شيء القضية الفلسطينية والنزاع العربي الاسرائيلي عامة وتناقضات الأزمة اللبنانية المعقدةِ غير أن المخرج لم يعثر عليه حتى الآنِ وتعقدت المهمة الآن أكثر بعدما قام العراق به، وأصبح ايجاد حل لمشاكل الاقليم أمرا صعباِ
وعن الحضور العسكري الأميركي قال غورباتشوف: في جوهر الأمر أعطيتم البراهين والحجج القوية جدا للأميركان في تكثيف حضورهم العسكري في منطقة الشرق الأوسط والخليجِ فالقوات الأميركية لن تنصرف من هناك ببساطةِ ويعطي اعلانكم باعتبار الكويت محافظة حجة اضافية لتثبيت الحضور العسكري الأميركيِ
وعلق الرئيس على سير المحادثات: بعد كل ما حدث ليس من الواقعية اجراء محادثات بلا ابداء الاستعداد لسحب القوات العراقية من الكويتِ واذا استطاع العراق صياغة المقترحات المناسبة، يمكن عندئذ التحدث عن تغيير القوات الأميركية بقوات عربية أو دوليةِ وعندما تؤكدون بأن الكويت جزء من الأراضي العراقية فإن موضوع المحادثات بحد ذاتها يزولِ وعليكم الأخذ بعين الاعتبار أن الحالة ستسوء بالنسبة لكم فيما يلي: أن ما يمكن عمله اليوم قد يكون غدا صعب المنال وستضطرون للدفاع بأغلىِ
وأثبت رئيس الاتحاد السوفيتي في ختام حديثه بأنه لا يستطيع القول بأنه راض بكل ما سمعهِ وأنه كان يفضل ظهور مواقف جديدة من الجانب العراقيِ تفارقا بابداء الاستعداد لمواصلة الاتصالاتِ
بعد الحديث كان واضحا لي أن صدام حسين عندما بعث وزيره الى موسكو لم يسلحه بشيء ما الا بوصية التخويف واستعداد بغداد لطريقة الحل العسكريِ وكان عزيز يصر على ذلك بتصويره الواقع ورديا وخاصة توزيع القوى في العالم العربي، وفيما يخص آفاق المواجهة العسكرية بشكل عامِ ولم يكن واضحا فيما اذا كان هذا تضليلا من الجانب العراقي أملا منهم بأننا سنخبر الأميركان بذلك أو كانوا يفكرون في ذلك في حقيقة الأمرِ وكان الافتراض الأخير أخطر بكثير بالطبعِ وقررت أن أصارح عزيز بتقديراتنا أثناء مباحثاتنا في وزارة الخارجيةِ
ولم اضطر حتى الى البحث عن حجة للانتقال الى هذا الموضوع الحساس، لأن طارق عزيز عاد اليه بنفسهِ بدأ من لقاء القمة العربي في القاهرة حيث كانت تواجه العراق، حسب قوله، السعودية ومصر وسوريا وبلدان الخليج الصغيرة فقطِ وفي الوقت نفسه أيدت الأردن وفلسطين واليمن والسودان وليبيا والجزائر وموريتانيا وتونس ( غيابيا ) العراقِ ويحظى موقف حكومات هذه المجموعة من البلدان بتأييد جماهير الشعب الواسعةِ واحتلت في الوقت الحاضر القوى اليمينية واليسارية والاسلامية موقفا واضحا في تأييد العراقِ ويظهر السؤال: هل يستطيع ملك السعودية أن يواصل وضع أراضي دولته تحت تصرف الأميركان ويبقى في الوقت نفسه راعي الحرمين ويستقبل الحجاج في السعودية؟ هل يستطيع النظام المصري احتمال الموقف الراهن في المستقبل؟ِ
واستمر طارق عزيز في حديثه: 'ان الاخوان المسلمين في مصر قوة رصينةِ وأعلنوا منذ الأسبوع الأول من الأزمة بيانا سلبيا بالنسبة لناِ لكنه بالأمس ظهر بيان جديد بمضمون مختلفِ بدأ الكثيرون يعيدون النظر في مواقفهم لصالحناِ بالتالي ستضعف مواقف من يواجهنا الآنِ بل بالعكس، ستتوطد في المستقبل مواقف مجموعة البلدان التي تؤيدناِ هذه هي العقلية السائدة بين العرب، فقد تراكم الغضب ضد الولايات المتحدة واسرائيل والحكومات العربية التي تتعاون معهما منذ عشرات السنينِ نزل الأميركان في المنطقة وكأنهم يتصرفون حسب سيناريو أحد الأفلام المعروفة عن 'السوبر مان رامبو'ِ وكانوا يأملون بأنهم ينجزون بسهولة ما أسماه كيسنجر ب 'العملية الجراحية' ِ غير أن الحياة ليست سينماِ لدينا جيش من مليون شخص وخمسة آلاف دبابة ومئات الطائرات والصواريخ، ولنا تجارب كبيرة لخوض الحرب، واذا أنزل الأميركان ضربات من الجو فإن دباباتنا لن تنتظر وسترد الضربة على قواتهم البريةِ واذا بدأ الصراع بجهاد المستميت فإننا سنبدأ بضرب الأمريكان وحلفائهم وستستمر المعركة شهورا عديدةِ سيتكبد الأمريكان فيها خسائر لم يعرفوها من قبل'ِ
ثم تلت أقوال عزيز بأن المشكلة الكويتية بالنسبة للعرب لا تقاس بالمشكلة الفلسطينية أو مشكلة القدس، وأعطى أوصافا حقيرة لدول الخليج وأكد ان العراق لم يكن متكاتفا أبدا كتكاتفه في الوقت الحاضرِ
الرد على عزيز
آمل ألا يتذمر القارئ لو أوردت ما قلته لوزير الخارجية العراقي كلمةِِ كلمة، لأني أعتقد ان هذا سيكون هاما للغاية من وجهة نظر تقديراتنا للحالة في ذلك الوقت ومقدار صراحتنا مع العراقيينِ قلت له ما يلي:
ليست الوحدة العربية تجريدا، بل شيء هام وملموس في سياستنا ومصالحناِ ولا يخفى عليك ان الاتحاد السوفيتي كان يدعو على الدوام الى ان تقف الدول العربية صفا واحدا وتتخذ مواقف واحدةِ ولنا مع العالم العربي الكثير من القضايا المشتركة أكثر من المفرقةِ ونضطر للاثبات مع الأسف، أن أحداث الأشهر الأخيرة أدخلت الشقاق والفرقة بين العربِ نأخذ بعين الاعتبار ما عرضته بصدد الحالة في المنطقةِ يتفق ادراكنا لهذه الحالة في شيء ويختلف في شيء آخر عن ادراككمِ
أولا، تشكل لنا انطباع بأن كل العالم العربي يعارض العراق في المسألة الخاصة بضم الكويتِ لكني لا أعرف دولة عربية واحدة أعلنت ان استخدام القوة ضد الكويت أمر عادلِ وحتى الأردن وليبيا واليمن والبلدان الأخرى التي ذكرتها استنكرت هذه الخطوةِ
ثانيا، في أي اتجاه يجري الانشقاق في العالم العربي؟ في رأينا للدول العربية مواقف مختلفة من مسألة ارسال القوات الى الجزيرة العربيةِ ويجري انشقاق عميق آخر يخص حضور القوات الأجنبية وخاصة الأمريكان الى الاقليمِ وفي غضون ذلك يكون توزيع القوى في هاتين المسألتين مختلفاِ بالتالي، سيتعقد حسب فهمنا، الوضع في العالم العربي، أكثر مما سمعته في عرضكِ ومع ذلك نستعد للموافقة على رأيك في أن حضور القوات الأميركية المكثف سيثير رد الفعل السلبي في البلدان العربية أكثر فأكثرِ نفهم ذلكِ لكني لا أميل للظن بأن الحكومة الأميركية تنوي الانتظار مدة طويلةِ لذا الفت نظرك الى أهمية عامل الوقتِ فما هو ممكن الآن، قد يستحيل عمله غداِ
لم أرد التعليق على ما قلته بصدد الوضع الداخلي في العراقِ فقد شعرت في كلمات الرفيق غورباتشوف باهتمام جدي بذلك الوضع الصعب الذي قد يقع فيه الشعب العراقي الذي نكن له كل المودةِ
وسأعيد ذكر المثال الذي ضربه رئيس الاتحاد السوفيتي بصدد الوضع الذي وقعت فيه مصر في عام 1967ِ اضطررنا في ذلك الحين الى انقاذ مصرِ كان وضعها مخيفاِ ولم يتوقف الهجوم الاسرائيلي الا عندما تسنى لنا بلوغ الاتفاق مع الولايات المتحدةِ لقد ارتكب عبد الناصر خطأ خطيرا عندما حمل قوات الأمم المتحدة على الانصراف ففتح في حقيقة الأمر الطريق للهجوم الاسرائيليِ
نعرف أن العراق دولة كبيرة ذات هيكل عسكري متطور وجيش قويِ ولكم تجارب غنية في حرب السنوات الثماني ضد ايرانِ وهذا عامل واضح يؤخذ في الاعتبار في هيئات الأركان الغربيةِ ولكن مصر وسوريا هزمتا في عام 1967 من اسرائيل وحدها فقطِ ولم تقف اسرائيل منذ ذلك الحين في مكانها، فهي ليست اسرائيل عام 1967 لا من الناحية العسكرية أو غيرهاِ اعذرني على الصراحة ولكن التفكير بأنه يمكنكم مواجهة الولايات المتحدة وانكلترا وفرنسا واسرائيل وبلدان أخرى فهذه مبالغة في تقدير امكانياتكمِ
لا أرى من الذي سيساعدكمِ قد تكونون استلمتم تأكيدات سرية من بعض الدول العربيةِ غير أن ما نعرفه يوصلنا الى الفكرة بأن لا أحد من العرب سيساعدكمِ لا أتحدث عن المظاهرات، فهذه ستتم، لكنها لن تؤثر عمليا على سير الحربِ بيننا الآن حديث رفاقي مباشر وأظن بأن المروءة لا تتلخص في القول: لا نخاف من أحد، بل في ادراك الواقع وهو ليس سارا بالنسبة لكمِ
لقد دار الحديث اليوم في الكرملين حول ثلاثة بدائل: الأول الحل الحربي الذي لا نقبله لأنه سيقترن بضحايا كبيرة ولن يكون حسب تقديراتنا في صالح العراقِ البديل الثاني مواصلة حصار العراق اقتصادياِ ولا يمهلكم الوقت هنا أيضا طالما ترفضون قرارات مجلس الأمن وقبل كل شيء القرار 660 ولن يكون أمام مجلس الأمن خيار آخر سوى تشديد العقوبات المفروضة من قبلِ لم نرد السير في هذا الطريق، غير أن ثمة منطقا للسلوك الحديدي يدفع مجلس الأمن لاتخذا قرارات جديدةِ من الممكن تأجيلها والقيام بمحاولات ترمي لاضعافها كما فعلنا مع القرار 665، غير أنه من وجهة نظري سيكون اتخاذها في النهاية أمرا حتمياِ
لذا نركز اليوم اهتمامنا الخاص على البديل الثالث وهو طريق الحل السياسيِ لقد كان على رأس المقترحات التي أطلقها معمر القذافي وياسر عرفات والرئيس التونسي شيء واحد: يغادر العراق الكويت وعلى الولايات المتحدة الانصراف من الجزيرة العربيةِ ولكل من هؤلاء الزعماء اختلافاتهم البسيطة في المواقف التي لا ترتبط بالأمر الرئيسيِ نرى في كافة المقترحات عدم رغبة مؤلفيها في أن يصبحوا شهودا على تصاعد النزاع وازدياد الخطر العسكريِ غير أن مفاتيح الانفراج توجد لدى بغدادِ ولهذا السبب رغبنا جدا في أن نسمع منك شيئا جديدا يسمح لنا بالاعتماد على عناصر أخرى في الموقف العراقي وتحويل تطور الأحداث من مجرى المواجهة المسلحة الى الحل السياسيِ
بيد أن طارق عزيز أصر بعناد على خطه العام محاولا البرهنة على قدرة بلاده على الحاق الهزيمة بالولايات المتحدة وحلفائها كقوله:
'لا نضجر من قولكم بأننا نبالغ في تقدير امكانياتنا حسب رأيكمِ عليكم ألا تقلقوا لقد جربنا أنفسناِ من الخطأ أن تقارنونا بمصرِ ان المصريين أخوتنا بالطبع ولكنهم يختلفون عناِ ينام المصري 8 ساعات في اليوم ويعمل ساعتين ويتلهى 14 ساعة أخرىِ والعراقيون ليسوا من هذا النوعِ من الممكن أننا جديون بافراطِ نحب العمل وعندما أعود الى بيتي في الساعة 10 ـ 11 أعتبر أن عملي كان قليلاِ جر المصريون في عام 1967 وجرونا الى حالة مورطة للغايةِ لديهم حلوق قوية ولكن عندما بدأت الحرب لم يحاربواِ أما نحن فاذا بدأت الحرب سنكافحِ تواجهنا دولة عظمى وسنكلفها غاليا وعليها معرفة ذلك: هل أن شيخ الكويت عزيز عليها لدرجة أنها مستعدة للتضحية في سبيله بعشرات الآلاف من الأشخاص؟'ِ
لقد قلت للرئيس غورباتشوف بأنه اذا ظنت الأطراف المواجهة لنا بأنها ستنزل ضربة سريعة وساحقة بنا وأننا سنصرخ في اليوم الثاني ونطالب مجلس الأمن بوقف اطلاق النار فانها تقع في خطأِ سنواصل المعركة وسيضطرون هم أنفسهم للتوجه الى مجلس الأمن بمثل هذا الطلبِ وسنقرر في هذه اللحظة ان كان علينا أن نوافق على هذاِِِ الوطن العربي يشبه في الوقت الحاضر المرجل واذا أنزل الأمريكان الضربة على العراق فان المرجل سينفجرِ سيغرق الماء المغلي كل الساحة من العراق حتى المغربِ وستشيط رشاشات الأمريكانِ قد يكون هذا أحسن، سنتخلص على الأقل من الامبرياليينِ
وعندما أدركت بأن المناقشات عن آفاق الحرب لن تجلب شيئا جديا ومفيدا، اكتفيت بملاحظة موجزة بالقول ان المستقبل وحده كفيل باظهار كيفية تطور الأحداث، مؤكدا موقفنا الرافض للحل العسكري و'نعرف صفات الشعب العراقي القتالية، الا أننا نرى أن تناسب القوى من الناحية العسكرية ليس في صالحكم'ِ

حديث جانبي مع عزيز

أورد مقتطفا آخر من حديثنا الخاص بمجلس الأمن وجاء نصه كالتالي:
عزيز: طلبت من رئيس الاتحاد السوفيتي أن تقدموا لنا مساعدة أكبر مما كانت عليه من قبل في مجلس الأمنِ
المؤلف: لكي نستطيع مساعدتكم عليكم ان تساعدوناِ فاذا انحصر موقف العراق كالسابق في النفي القطعي لامكانية سحب القوات من الكويت فلن تكون هناك فرصة عمليا للمناورة السياسيةِ نعتبر ابتلاع الكويت من قبل العراق أمرا غير مقبول بالنسبة لنا ولا نستطيع مخالفة مبادئنا الخاصةِ ثمة حد معين نسير اليه في مجلس الأمنِ واذا أردتم مساعدتنا زودونا بالحجج التي انتظرها جدا منك اليوم رئيس الاتحاد السوفيتي عشية لقائه بجورج بوشِ
عزيز: لماذا تنوون السير أبعد مما قد سرتم عليه في مجلس الأمن؟ِ
المؤلف: لن يسلم المجتمع الدولي بضم الكويت وهذا واضح للجميعِ فلنفكر كيف يمكننا التوصل الى الانفراجِ
عزيز: لكن القرارات قد اتخذتِ لماذا يحتاج الأمر الى قرارات جديدة لمح مجلس الأمن الى امكانية اتخاذها؟ِ
المؤلف: لا يستطيع مجلس الأمن أن يتكاسل عندما لا تنفذ قراراتهِ أنت دبلوماسي محترف وتعرف كيف يتصرفون في مثل هذه الحالاتِ لهذا السبب نريد بوادر عراقية ما تمكن القيام بمناورة سياسيةِ ويثير كل قرار تتخذونه وبالأخص اعلانكم الكويت المحافظة ال 19 للعراق تصعيدا للمواجهةِ ان الحل السياسي وحده الكفيل بتخفيف الوضع على أساس سحب القوات العراقية من الكويت والأمريكية من الجزيرة العربيةِ هذا هو تقديرناِ
تحدثت مع عزيز أكثر من ساعتين في سمالينسكيا ( حيث تقع وزارة الخارجية ) وقبلها في الكرملين، لم يقل شيئا للأسف، أمكننا الاعتماد عليه في هلسنكي بخصوص استعداد العراق لابداء مرونة ما واحتمال تغيير دفة الأزمة نحو جهة الحل السياسيِ كان موقف بغداد كما عرضه لنا طارق عزيز يتجه نحو طريق معاكس تماما يؤدي فقط إلى الاصطدام العسكريِ وكان من الصعب ابتكار 'هدية' أسوأ للقاء هلسنكيِ
حمل لقاء عزيز لحظة ايجابية وحيدة في تأكيده الذي حصلت عليه في أنه سيأخذ على عاتقه شخصيا مراقبة كافة المسائل برحيل خبرائنا من العراقِ ولم يستغن الأمر هنا أيضا عن ابداء تحفظاته بصدد رحيلهم قبل انتهاء أجل العقود الذي سيثير، كما زعم، اعتراض الوزراء ورؤساء المؤسسات المعنية في العراقِ وأكد في الوقت نفسه ان القيادة العراقية لم تتخذ بعد أي قرار بشأن ابقائهم في العراقِ
في الصباح التالي ( 6 سبتمبر ) جئت بطارق عزيز الى المركز الصحفي لوزارة الخارجية حيث تجمع الكثير من الصحافيينِ
اكتفى طارق عزيز بكلمة افتتاحية موجزة ومن ثم أجاب على الأسئلةِ كانت أقواله مضبوطة بدقة ولم يخرج قيد شعرة عن مواقف بغداد العلنية المعروفةِ وتكلم عن المحادثات في الكرملين ووزارة الخارجية مشيرا الى أنه بالرغم من اختلاف المواقف بين الاتحاد السوفيتي والعراق، الا أنه 'تسنى اجراء تبادل مخلص للآراء على أساس تقاليد الود القديمة حول كافة المسائل'ِ
يمكنني الموافقة على ذلك وان كنا نريد أن تمدنا بغداد بشيء مشجع نحمله الى هلسنكيِ غير أن ذلك لم يحصل للأسفِ
بعد انتهاء المؤتمر الصحفي توجهنا معا مباشرة الى المطار حيث ودعته هناكِ