السبت، 11 يونيو 2011

الكرملين وأزمةالكويت(17)

في هذا الوقت استمر الوضع في منطقة الخليج في التوتر وحشد القوات وزيادة الأسلحة من الجانبينِ وفي لحظة عقد قمة هلسنكي، بلغ عدد المشاركين في القوات الدولية 23 دولةِ ولم ينته الوضع عند هذا العددِ وتجري في العراق دعوة الاحتياط الى الخدمة العسكرية وتتشكل الوحدات الجديدة وزادت التشكيلات العسكرية في الكويت نفسها ثلاث مراتِ وكان تلفزيون وإذاعة بغداد بكافة الطرق يسودان سمعة الأمريكان والسعوديين والمصريين وغيرهم من المشاركين في التحالفِ ويدعوان في آن واحد الشعب إلى شد الأحزمة بشدة استعدادا للحربِ وكانا يوحيان للعراقيين باستمرار بأن انتصار العراق مضمونِ وكانت قيادة البلد نفسها تبادر في ذلك (الرئيس ومجلس قيادة الثورة)ِ
وأثر الاستيلاء على الكويت والاستعدادات العسكرية اللاحقة على مصائر مئات الآلاف من البشر بشكل صعب للغايةِ واضطرت الأردن لقبول قرابة 600 ألف لاجئ من العراق والكويت خلال أغسطس وسبتمبر فقطِ وأصبحت عمان البوابة الرئيسية التي يمر عبرها الأجانب، الذين في الأغلب هم مواطنو البلدان الثالثة ممن فقدوا عملهم ووسائل عيشهم في العراق والكويت وبعد ازدياد وضع الأجانب الغذائي والمعيشي سوءا كل أسبوع يمر، ناهيك عن تعرضهم لمختلف أنواع التمييزِ وحاول عشرات الآلاف إيجاد مأوى لهم في إيران وتركياِ وترك نحو مليون شخص الكويت والعراق في شهري الأزمة الأولينِ ومن جهة أخرى، كان مواطنو البلدان المشاركة في القوات متعددة الجنسية يحتجزون كرهائنِ
وصلت في غضون ذلك، من الكويت معلومات أشد ظلاما عن احتياج البلد الفعليِ وكان الدبلوماسيون الغربيون الذين بقوا هناك وبعض اللاجئين، مصادر هذه المعلومات من حيث الأساسِ وتشكلت لدينا تصوراتنا الخاصة بعد ان تسنى لموظفي القنصلية العامة للاتحاد السوفيتي في البصرة زيارة الكويت بهدف الإطلاع على وضع السفارة السوفيتية التي أبقيت هناك في كنف السلطات العراقيةِ
سجل موظفونا في تقريرهما ما يلي: 'تترك عاصمة الكويت انطباع المدينة المتروكة والمهملةِ لا ترى في البيوت مظاهر الحياة تقريباِ ليس ثمة، عمليا، سكان محليون في الشوارعِ يمكن مصادفة جماعات متكونة من 2 - 3 أشخاص وهم بالأساس فلبينيون وهنود وبنغالِ لم تنظف الشوارع منذ زمن بعيدِ وتنتشر في كل مكان أكوام الأوساخ والقاذورات التي يحرق البعض منها أو ينطلق منه الدخانِ لا توجد في المدينة سيارات مدنية، وبالكاد ما تصادفه تكون عراقيةِ شلت تماما الحياة في المدينة وفي مجال الأعمال، أغلقت كافة المؤسسات، لا تعمل أكثر الفنادقِ ليست هناك في الحقيقة تجارة بعد ان نهبت المحال التجارية غير المحروسةِ أما سوق الخضار في المدينة فموحش جدا'ِ
وإليكم انطباع رفيقينا عن الطريق: 'طريق السيارات البصرة - الكويت دائب الحركةِ تذهب السيارات الى الكويت بلا حمولة عدا شاحنات الجيش، بينما تعود محملة حتى نهايتها بمختلف الأشياء حتى مواد البناءِ أما السيارات فوضعت على التريلات'ِ
وما يمكن استنتاجه عن عملية نقل مختلف الممتلكات الكويتية الى العراق وعلى نطاق واسع هو سؤال طبيعي: لماذا ينبغي تدمير أسس الحياة العادية في أراض سمتها بغداد رسميا بالمحافظة ال 19 للعراق؟ ألا يعني ذلك أنهم في بغداد يدركون عدم تمكنهم الاحتفاظ بالكويت لذلك قرروا سرقة ما يمكن نقله؟
من جهة أخرى، بدا ان القيادة العراقية تعرف بأنها ستضطر لدفع ثمن كل ذلكِ فلماذا ينبغي إلقاء عبء إضافي على عاتق الشعب العراقي؟ وفي آن واحد الحط من سمعة البلد الذي شوهه أصلا العدوان على بلد مجاور صغير؟
لا نجد في العقل جوابا واحداِ وكان ما يرى على السطح بشعا ومن الممكن ان تعد حقيقة كاذبة تحفيز العراقيين العاديين على الاحتفاظ بالمأخوذ (ليس ما يوجد في الكويت فحسب، بل الاحتفاظ بما يوجد في العراق بما في ذلك المنتشر على رفوف المحال التجارية)ِ وحسب مشاهدات ناسنا، ظهرت في المحلات التجارية العراقية الكثير من البضائع لم تكن موجودة قبل الاستيلاء على الكويت أو كانت أسعارها أغلى بكثيرِ
تعتبر فرنسا الدولة الغربية الوحيدة التي تسنى لصدام حسين زيارتهاِ حصل ذلك في عام 1975، وبدأت العلاقات الفرنسية - العراقية بعد هذه الزيارة، تتطور بشكل عاصفِ حتى انتشرت في المجال النوويِ وكان العراق يشتري مختلف أنواع الأسلحة ووصلت في بعض السنوات أكثر مما يشتريه من الاتحاد السوفيتيِ وإن كانت العلاقات الفرنسية - العراقية الخاصة في قدر كبير ثمرة سياسة ديغول، فان الاشتراكي ميتران كان مائلا الى نهج أسلافه ووزيره للدفاع جان بيير شيفينمان يعد أحد مؤسسي جمعية الصداقة الفرنسية - العراقيةِ ونصح طارق عزيز في نهاية أغسطس 1990 على صفحات الجريدة الفرنسية 'فيغارو' الفرنسيين بأن يتذكروا ماهية سياسة ديغول وبومبيدو وجيسكار ديستان عندما سلكوا سياسة تختلف عن الولايات المتحدة وإنكلتراِ ولكي تعطي بغداد لباريس حافزا آخر، أطلقت سراح أكثر من 300 شخصِ وحسب بعض المعلومات كان هذا القرار نتيجة المباحثات غير العلنية التي أجراها وزير خارجية فرنسا الأسبق كلود شيسون مع طارق عزيز لإطلاق جميع الرهائن الفرنسيينِ
وعلى العكس، كانت بغداد، بحجزها خبرائنا حتى في نوفمبر، تريد تصعيب وضعنا في المحادثات السوفيتية - الأمريكية المقبلةِ كان عدد الخبراء السوفيت في نوفمبر 5500 شخصِ وفي 12 نوفمبر اضطر (أية مرة !) مدير إدارة بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كولوتوشا لطرح المسألة غير المرضية بالمرة الخاصة برحيل المواطنين السوفيت أمام السفير العراقيِ وأشار كولوتوشا الى ان المشكلة تكتسب طابعا أكثر حدة لأن الطرف العراقي لم ينفذ حتى الاتفاقات التي تم التوصل إليها خلال مباحثات يفغيني بريماكوف الأخيرة مع صدام حسينِ
أنذر السفير بأنه من الممكن ان تكون لتصرفات السلطات العراقية عواقب وخيمة على المدى البعيد بالنسبة للعلاقات السوفيتية - العراقية لأن ذلك لا يتفق مع قواعد العلاقات المتمدنة بين الدولِ
200 عسكري روسي
وأود تناول ناحية المشكلة الأخرى الخاصة بالخبراء السوفيت العسكريين العاملين في العراق، ففي لحظة استيلاء العراق على الكويت كان عددهم نحو 200 شخصِ وكنت أظن شخصيا بأنه في ضوء العدوان المرتكب وموقف الاتحاد السوفيتي المبدئي ضد هذا العدوان، بما في ذلك الكف الفوري عن إمدادات الأسلحة السوفيتية الى العراق، ان وجود الخبراء العسكريين فقد أساسه السياسي والأخلاقيِ وأدليت بهذا الرأي في جلسات المجموعة التي تضم الوزارات والمؤسساتِ واعترض جنرال الجيش رئيس هيئة الأركان العامة السوفيتية على هذا الطرح بشكل منفعل جداِ منطلقا من أنه رغم كل شيء، يعتبر التعاون العسكري مع العراق أمرا طبيعيا تماماِ ولم يستطع وزيرا الخارجية والدفاع السوفيتيان حل هذه المسألة بينهما واحتل الرئيس السوفيتي لأسبابه الخاصة موقف المتملصِ
في غضون ذلك، أخذوا في الغرب وبعض البلدان العربية ينتقدون موسكو بشكل عنيف جراء هذه التناقضاتِ وإن كانت وزارة الدفاع السوفيتية تصرح علنا أن العسكريين السوفيت العاملين في العراق بعقود ليسوا مستشارين عسكريين بما تعنيه هذه الكلمة، أي أنهم لا يعملون في هيئة الأركان العراقية مباشرة، بل هم خبراء تنفيذيون يساعدون العراقيين على استيعابهم المعدات العسكرية السوفيتية وتنظيم بنية التصليح والصيانة ِِِ الخ، فان جوهر الأمر كان يتغير قليلا: كان الاتحاد السوفيتي بواسطة خبرائه يساعد على تمتين قدرة البلد العسكرية الذي قام بالعدوان بمساعدة الأسلحة السوفيتية بالذات وبالأساسِ
وكان جورج بوش قد طرح هذه المسألة في قمة هلسنكي أمام ميخائيل غورباتشوفِ وكرر الرئيس السوفيتي الحجج المعروضة أعلاه لوزارة الدفاع وأضاف قائلا: إن عساكرنا في العراق يتقلص عددهم بالتدريجِ لم يلجأ بوش إلى الضغط وعلقت المسألة، الأمر الذي بنى الأساس لاستمرار الأقوال غير الملائمة تجاه السياسة السوفيتيةِ
وبالمناسبة، طالب المجلس الأعلى لجمهورية روسيا الاشتراكية الفيدرالية السوفيتية (البرلمان الروسي الذي كان يترأسه بوريس يلتسين في هذا الوقت - ج) في منتصف سبتمبر من الكرملين ان يسحب جميع الخبراء العسكريين السوفيت من العراقِ
وفي مطلع أكتوبر، وصل الجنرال مويسييف (رئيس هيئة الأركان العامة السوفيتية وقتذاك - ج) الى الولايات المتحدة في زيارة عملِ وحسب تقرير جريدة 'نيويورك تايمز' التي أجرت معه لقاء صحفيا، واصل الجنرال تمسكه ب 'الدفاع النشيط' عندما دار الحديث عن الحضور العسكري السوفيتي المستمر في العراقِ وكان ذلك في بداية الزيارةِ ويبدو ان جنرالنا شعر في حالة غير لائقةِ ومهما كان الأمر قال في نهاية الزيارة في مؤتمر صحفي إن الاتحاد السوفيتي سيسحب من كل بد جميع خبرائه العسكريين قدر ما يكون الوضع ممكناِ غير ان الوقت قد فاتِ فالسلطات العراقية ترفض حتى هذا الوقت، السماح برحيل عساكرنا، وحتى أولئك الذين انقضت مدة عقودهمِ وتسنى ليفغيني بريماكوف وحده في نهاية أكتوبر وخلال زيارته الثانية إلى بغداد التوصل بصعوبة كبيرة الى عودة 34 عسكريا إليناِ واستمروا في إمساك الآخرين في العراقِ
محادثاتي في تركيا
كان لموقف الجار الشمالي للعراق تركيا أهمية بالغة بالنسبة للعراق والبلدان التي كانت تواجهه في أزمة الكويت على السواءِ وفي سنوات الحرب العراقية - الإيرانية كانت أنقرة تهادن بمهارة الجارين المحاربين وتتاجر معهما بنشاطِ وفي هذه السنوات ضعفت قابلية مرور النفط العراقي عبر الخط التركي من كركوك الى البحر الأبيض المتوسط والذي كانت تجني منه تركيا ربحا حسناِ وبلغ حجم الصادرات التركية الى العراق سنويا في عام 1990 نحو 750 مليون دولارِ وكانت نحو 5 آلاف شاحنة تجتاز يوميا الحدود التركية - العراقية وتعمل بنشاط شركات البناء والنقل التركيةِ
ومن الواضح ان تركيا كانت الدولة الأولى التي زارها وزير الخارجية الأمريكي بيكر بعد اتخاذ قرار مجلس الأمن الخاص بالعقوبات ضد العراقِ وقبل ظهوره في أنقرة أمر الرئيس التركي تورغوت أوزال بقطع خط أنابيب النفط وخفض بذلك إمكانية تصدير العراق للنفط بالثلث تقريباِ وقدر الرئيس أوزال الخسائر التركية جراء العقوبات المفروضة على العراق بقرابة 5،2 مليار دولار في السنةِ واضطر وزير الخارجية الأمريكي لتقديم الكثير من الوعود بغية تثبيت موقف أنقرة في مراعاة العقوبات الصارمة وتقديم تسهيلات لسلاح الجو الأمريكي في استخدام قاعدة أنجيرليك في الجنوب التركي (وعد تركيا بمنحها طائرات فانتوم التي كانت واشنطن ترفض توريدها لها بسبب اعتراضات اليونان وأعطيت الموافقة على إعادة بيع الطائرات التركية 'إف - 16' الى مصرِ ووعد بتأييد انضمام تركيا الى الاتحاد الأوروبي وزيادة القروض من البنك الدولي الى 5،1 مليار دولار في السنة)ِ
فيما بعد تملصت أنقرة من الانضمام الشكلي الى قوات التحالف، لكنها قدمت مساعدات فعالة له بتركيز تشكيلاتها العسكرية الكبيرة على الحدود مع العراق بما فيها الدبابات مما دفع بغداد الى إبقاء عدة فرق في الشمال على الدوام (جذبت تركيا في هذه الحركة نحو 100 ألف جندي عراقي)ِ
وكانت العلاقات السوفيتية - التركية في ذلك الوقت في مرحلة نهضة ملحوظة وخاصة في المجال الاقتصادي والتبادل التجاريِ فقد دخلت تركيا التي كانت تعتبر 'رجل أوربا المريض' بعد انصراف العسكريين من السلطة عام 1983، بسرعة الى مرحلة النهضة الاقتصادية بفضل إصلاحات تورغوت أوزال (في البداية بصفته رئيسا للوزراء ومن ثم كرئيس)ِ وازدادت بشكل ملموس مركبة العلاقات السوفيتية - التركية الاقتصادية، تلتها المركبة السياسيةِ
وكنت مسؤولا عن علاقاتنا مع تركيا لكوني نائب وزير الخارجيةِ ولهذا السبب استلمت الدعوة لزيارة أنقرة لأجل إجراء بعض المشاورات السياسية في أغسطسِ ولم أتمكن الذهاب إليها سوى في أكتوبرِ
استمرت المباحثات في وزارة الخارجية التركية خلال يومين (10 و 11 أكتوبر)ِ وكان نائب وزير الخارجية توغاي أوزتشيري شريكي الرئيسي فيهاِ وجدنا بسرعة لغة مشتركة وجرى البحث في المسائل بفضل ذلك بيسر وبلا كلفةِ واحتل النظر في نواحي العلاقات المختلفة بين البلدين أساسا لمشاوراتناِ وعبرنا عن ارتياحنا لمستوى علاقاتنا السياسية المعمقة وازدياد حجم التعاون الاقتصادي والتجاري وتنوعهِ وبحثنا بصورة تفصيلية في كل شيء ينبغي عملهِ ووقعت في أنقرة بروتوكولا لاستمرار المشاورات السياسية بين الاتحاد السوفيتي وتركيا الذي وضع تبادل الأفكار في المشاكل الملحة أساسا للتعاون الثنائي وفق العلاقات الدولية وعلى أساس دوريِ
ومن ضمن المشاكل الدولية وجهنا اهتمامنا الرئيسي الى أزمة الكويت ولقاء قمة مجلس الأمن والتعاون الأوروبي في باريس ومشكلة قبرصِ
شرحت موقفنا العام من أزمة الكويتِ ولخصت موقفنا بصدد الأزمة بمبدأين رئيسيين: إعادة استقلال الكويت والتوصل الى ذلك بالوسائل السلميةِ وركزنا الاهتمام على العنصر الثاني كون خطر النزاع الحربي قائماِ وفي هذا الصدد، راجعنا كافة القرارات المتخذة حتى الآن الموجهة الى إعادة سيادة الكويت بمساعدة التدابير السياسية والاقتصادية على العراقِ واتفقنا على أن ثمة حاجة للوقت لكي تلبي هذه التدابير النتائج المرجوةِ أما عن المستقبل، فمن الواضح ان الأزمة لا يمكن حلها بطريقة سلمية، إلا بشرط ان تبدي بغداد استعدادها لسحب قواتها من الكويتِ وإذا عاندت فان مجلس الأمن سيضطر عاجلا أو آجلا على القيام بالخطوة المنطقية التالية وهي استخدام القوة العسكرية ضد العراقِ
لا نظن أن هذا الإجراء قد نضج في ذلك الوقتِ وفي الوقت نفسه ينذر الجانب السوفيتي علنا وبطرق أخرى بإبلاغ صدام حسين بأن مجلس الأمن سيضطر إلى اللجوء للقوةِ وقلنا صراحة لصدام حسين بأنه سيسحق لو اندلع النزاع العسكريِ ونصحناه ان يثوب الى رشده ويظهر المرونةِ وأشرت بأننا لسنا من أنصار انفراد دولة أو مجموعة دول حل النزاع في منطقة الخليجِ ويجب ان يتخذ مجلس الأمن وحده كافة القرارات في هذا الصددِ وأكدت من جديد بأننا نعارض الحل العسكري ولا نريد إراقة للدماءِ
ثم تحولت الى رحلة يفغيني بريماكوف الأولى وعن وضع الخبراء العسكريين السوفيت ونظرتنا إلى توزيع القوى العامة في خصوص الأزمة بما في ذلك في العالم العربيِ وأشرت إلى أن بغداد لم تتوقع هذا الرد الدولي الحاد (فعلا) نتيجة استيلائها على الكويتِ وأشرت الى التقدير غير الصحيح لبغداد لرد الفعل السوفيتي الذي يعتبر واحدا من أخطائها الذي لا أشك فيهِ لم يدركوا في بغداد ان التطاول على بلد ذي سيادة نفهمه كضربة للنظام العالمي برمته كما لم يدركوا الدور المناط بالأمم المتحدة وقدرتها على وضع الحد للأفعال العدوانيةِ واعترفت بأنه لم يكن سهلا علينا اتخاذ هذا الموقف بعد عشرات السنوات من التعاون مع العراق في مختلف الاتجاهات والمنفعة التي تجلبها لنا علاقاتنا الاقتصادية معهِ
وفي النتيجة قررنا ان خطورة الحالة وصعوبة تكهن نتائجها يدعونا بإلحاح الى زيادة الجهود الجماعية للضغط المناسب على نظام صدام حسينِ
قال أوزتشيري إنه يشاركنا بالكامل تقديراتنا ومن المشكوك فيه ان يستطيع إضافة شيء إليهاِ وعرض موقف تركيا الذي اتفق فعليا في الكثير منه مع موقفناِ وخلص إلى إيجاز الموقف التركي على النحو التالي:
- فعل عدوان العراق وضم الكويت غير مقبولِ
- يجب تنفيذ قرارات مجلس الأمن المتخذة في حجمها الكاملِ
- يجب تهيئة الظروف السانحة الى الحد الأقصى لكي تصل قرارات مجلس الأمن هذه الى أهدافهاِ
- تعتبر الوسائل العسكرية للتأثير إجراء أقصى وينبغي استخدامها في إطار ميثاق الأمم المتحدة بحزمِ
- عند الضرورة القصوى يمكن لمجلس الأمن اتخاذ عقوبات عسكريةِ
قصد أوزتشير من النقطة الأخيرة فرض عقوبات على بغداد جراء عدوانه المرتكب عن طريق إقرار تقييدات عسكريةِ وقال أوزتشيري إن وجهة نظر تركيا في سياق الأزمة تركز على تخفيض الخطر العسكري الآتي من العراق بعد حل الأزمة بالنسبة لبلدان الإقليمِ وانحصر جوهر الخطر برأيه، على تسلح العراق فوق الطبيعيِ
كان من المفهوم ان تركيا كبلد مجاور للعراق لا تريد ان يكون على مقربة منها بلد له جيش من مليون فرد وصواريخ وسلاح كيميائي، ومن المحتمل حتى السلاح النووي في المستقبلِ ولكي لا تتحدد المسألة بالتقييدات العسكرية بالعراق وحده رددت على أوزتشيري عن وضع المشكلة الأوسعِ وقلت ان الأزمة أظهرت ضرورة صياغة نظام متين للأمن الإقليمي في المنطقةِ وتكون مسألة مستوى الأسلحة المسموح بها لبلدان الإقليم أحد هذه العناصرِ وذكرت في هذا الصدد ان الجانب السوفيتي أشار قبل سنة الى الكثير من المشاكل التي تطالب باهتمام أكثر ومن الدرجة الأولىِ قمنا بذلك في سير جولة ادورد شيفرنادزه في بلدان الشرق الأوسطِ ونعتقد أنه من المفيد إنشاء مركز لتخفيض الخطر العسكري لهذا الإقليم ونؤيد تحديد التكنولوجيا العسكرية الحديثة بما في ذلك أسلحة الدمار الشامل والأسلحة الصاروخيةِ وقلت ان هذه المسألة يمكن ان تصبح موضوعا لمشاورات خاصةِ
أوضح الأتراك أنهم ضد تقسيم العراقِ وقال أوزتشيري ان العالم العربي لم يكن كما كان في السابق بعد انتهاء النزاعِ ولكن ينبغي ألا يدور الحديث حول تغيير الوقائع السياسية والجغرافية وخاصة تغيير الحدودِ
كان هذا تصريحا مهما جدا سررت لسماعهِ فمهما كانت نهاية الأزمة، بواسطة الحل السلمي أو استخدام القوة، يجب ان يحافظ العراق على وحدة أراضيهِ أيد الأتراك في هذه اللحظة العقوبات الاقتصادية لوقت ما، وإن كانوا يشكون من الخسائر المالية الكبيرة التي يتكبدونهاِ اعترفوا بأن توقعهم، بأن العقوبات ستحمل بغداد بعد ستة أسابيع على إعادة النظر في الموقف من ضم الكويت، كان متفائلا جداِ ولم يفكروا بعد ذلك الى تسمية مواعيد جديدةِ فمن الواضح ان الحالة لا ترضيهم لو بقي الوضع على ما هو عليه لمدة طويلةِ ومع ذلك لم ألحظ عدوانية عسكرية تجاه بغداد وصدام حسين شخصياِ كانوا مستغربين فقط كيف استطاع ان يرتكب مثل هذا الخطأ الخطير وعدم التكهن برد فعل المجتمع الدوليِ وأشاروا إلى أنهم كانوا خلال سنوات عديدة ينظمون بدقة علاقات التعاون البناء مع العراق التي محيت حالاِ باختصار، وجدوا أنفسهم بحالة شبيهة جدا لحالتنا، بل كانت ربما أكثر حدة وتعقيدا (بسبب الحدود المشتركة مع العراق والمشكلة الكردية وتهديدات طهران بشأن مرابطة الطائرات الأمريكية في تركيا)ِ
في نهاية الحديث، كررت ما قلته من قبل في طهران بصدد السيناريو المحتمل للحل السلمي: تصرح بغداد باستعدادها لسحب القوات من الكويت ويرد التحالف بوعد عدم شن هجومِ ويبدأ العراق في سحب قواته مع تقليص جزئي للقوات متعددة الجنسية ِِِالخِ وأشرت الى أنه إذا لا نفكر في آفاق الخروج السلمي من الأزمة فأن الأمور ستنحدر الى تحت الجبلِ ودعوت الجانب التركي الى الانضمام الى عملية البحث عن مخرج سلمي والتأثير بقدر الإمكان على بغداد تأثيرا مناسبا لأن الشرط الأدنى لبدء عملية التسوية السياسية هو إعلان إمكانية الانصراف من الكويت من قبل القيادة العراقيةِ
للأسف، لم يكن لدى الأتراك، كما لم يكن لدينا أيضا، الرؤية في كيفية تصرف صدام حسين في نهاية الأمرِ اتفقنا على إطلاع بعضنا البعض على تطور الأحداث وعلى ان لا يكون هذا اللقاء الأخير بينناِ
الابتزاز بالرهائن
بعد ان حولت بغداد مواطني البلدان المشاركة في القوات متعددة الجنسية الى رهائن، بدأت بلا حياء استخدامهم لأغراضها الخاصةِ ومن المفهوم ان أقرباء الموقوفين كانوا يضايقون حكوماتهم وبرلماناتهم ومنظماتهم الاجتماعية الأخرى بالضغط من أجل اتخاذ خطوات ما لتخليصهم، حتى لو وصل الأمر الى اتفاق مع السلطات العراقيةِ
أما بغداد، فكانت تحاول إضعاف التحالف وتفصيله طبقة، طبقة، بتصرفات منفردةِ وتلقي دوما الذنب على عاتق الحكومات المعنية لتشجيع قوى المعارضة وبعض الأوساط الاجتماعية المؤثرة والساسة الذين ساهموا بشفاعة بغداد تحرير بعض الرهائنِ كانت الغاية من ذلك استخدام مشكلة الرهائن لأغراض سياسية مغرضةِ وبطريقة ما، تقدم وزراء الخارجية الأوربيون في 3 نوفمبر بتوصية مشتركة بأن لا يتخذ الساسة خطوات منفردة والقيام برحلات الى بغدادِ غير ان هذه التوصية لم تجيء بنتيجة ملحوظةِ
في نوفمبر بلغ عدد الزوار أوجهِ في 6 نوفمبر أطلقت بغداد سراح 106 رهائن مع رئيس وزراء اليابان الأسبق نكاسوني أكثرهم من اليابانيينِ وفي 9 نوفمبر نقل المستشار الألماني الغربي الأسبق معه نحو 200 من الرهائن الألمانِ ورحل نحو 40 إنكليزيا مع رئيس الوزراء البريطاني السابق ادوارد هيتِ وقبل ذلك بقليل عاد 47 من الرهائن الأمريكان الى وطنهم مع المدعي الأسبق بمنصب رئيس الولايات المتحدة جيسي جاكسونِ وزار بغداد للهدف نفسه عضو البرلمان البريطاني توني بين وبطل العالم في الملاكمة الأسبق محمد علي كلاي والسياسي الفرنسي اليميني جان ماري لي بين ومحافظ تيغاس الأسبق جون كونيلي والنائب العام الأسبق للولايات المتحدة رامس كلاركِ استخدمت الدعاية العراقية هذه الزيارات على نطاق واسع لتبين لشعبها أن العراق غير معزول سياسيا بالمرة، بل يجذب إليه كالمغناطيس مختلف الشخصيات المعروفة من البلدان الغربيةِ
وأصبح قرار البرلمان العراقي المؤرخ في الأول من نوفمبر بإطلاق سراح جميع المواطنين البلغار، على أساس ان بلغاريا خلافا لبعض بلدان أوروبا الشرقية لم تشارك حتى بشكل رمزي في التحالف، مظاهرة سياسيةِ