السبت، 11 يونيو 2011

الكرملين وأزمةالكويت (19)

كان ثمة أمل في البداية في أن بغداد تريد انتهاز هذه المبادرةِ وزاد هذا الأمل أن النائب الأول لرئيس الوزراء العراقي رمضان أرسل على عجل الى المغربِ وأجرى نائب رئيس الوزراء حمادي المباحثات مع ملك الأردن ومن ثم سافر الى ليبيا وتونس والجزائرِ ودفعت مبادرة المغرب الاتصالات العربية الاستثنائية الأخرى: ذهب الرئيس المصري حسني مبارك الى ليبيا ومن هناك الى دمشق وكانت الدبلوماسية السعودية نشيطة جداِ
غير أن الآمال تناثرت بسرعة وانهارت كبيت صغير من الورقِ وخربت بغداد نفسها فكرة عقد القمة لأنها قدمت شروطا تعجيزية للمشاركة فيهاِ وأهم هذه الشروط: إلغاء قرارات القمة العربية السابقة والموافقة على مناقشة مشكلة الكويت في سياق مشاكل المنطقة الأخرى فقط وخاصة المشكلة الفلسطينيةِ صرح رمضان علنا بذلك مكيلا هجوما شخصيا ضد الرئيس مبارك والملك فهدِ
ردا على ذلك، قال وزير الخارجية السعودية ان لقاء القمة سيكون فقدانا للوقت وعديم الجدوى إذا لم يعلن العراق بوضوح استعداده لتنفيذ قرارات مجلس الجامعة العربية وهيئة الأمم المتحدة ومغادرة الكويتِ وأعرب حسني مبارك وحافظ الأسد سوية عن خيبة أملهما من موقف بغدادِ وفي هذه الظروف كنا نطرح مع بيتروفسكي في سير مشاوراتنا في العواصم العربية طرق التغلب على الأزمة وشق الصف العربي وحثهم على تنشيط جهودهم لأجل الخروج السلمي من الأزمةِ
وثمة حادث آخر: وصل الى بغداد في 14 نوفمبر وزير الخارجية الإيراني ولايتيِ وكانت هذه الزيارة الأولى بمثل هذا المستوى الى العراق في السنوات العشر الأخيرةِ وبطبيعة الحال استلفتت الانتباه وبالأخص لدى بلدان الخليج حيث كان علي أن أجري المباحثات عن الحالة التي كان من الممكن أن يتوقف عليها الكثير في حالة تغيير طهران لموقفها السلبي من الاستيلاء على الكويت وأية تنازلات إقليمية لصالح العراقِ
في صنعاء مع الرئيس صالح
وضعت اليمن النقطة الأولى لمساريِ ولم تكن ثمة أهمية لزيارة العواصم بشكل دوريِ غير أن اليمن كانت تحتل موقفا خاصا من بين البلدان التي أزورها، علاوة على أنها عضو في مجلس الأمنِ لذلك كان ثمة معنى معين لزيارتها قبل الآخرينِ
وصلت الى صنعاء في 14 نوفمبرِ وكنت أعرف جيدا سفيرنا في اليمن فينيامين بوبوف الذي مضى هناك عدة سنوات ودرس الأوضاع في البلد حسناِ وأخطرناه بأن الحديث مع الرئيس اليمني صالح سيكون معقدا جداِ
استقبلني علي عبد الله صالح في اليوم التالي في مقره الشخصي بحضور وزير الخارجية عبد الكريم الأرياني الذي التقيت به كثيرا من قبلِ رأيت صالح لأول مرةِ كان عمره في ذلك الوقت 48 سنة وترأس اليمن الشمالية أثناء السنوات ال 12 الأخيرة ومن مايو 1990 ترأس جمهورية اليمن بعد توحيد الشطرين الشمالي والجنوبيِ وبعد التوحيد ضمت اليمن أكثر من نصف العرب في الجزيرةِ
استمر حديثنا ثلاث ساعاتِ كان مخلصا ووديا من حيث اللهجةِ غير أن الاختلافات في المواقف كانت كثيرة ومنها ادعاءات الجانب اليمني العديدة حيال موسكوِ وانقسم الحديث الى جزءين: تكلمنا في البداية عن الشؤون الدولية ومن ثم عن العلاقات السوفيتية - اليمنية الثنائيةِ وشعرت في الحالتين بقلق ملحوظ إن لم أقل عصبية الرئيس بصدد مجرى الحديثِ
وتطبيقا للوضع الدولي كان شيئان يقلقان بشدة اليمنيين: الحضور العسكري الأجنبي وقبل كل شيء الأميركي في الجزيرة العربية والمساحة المائية المتاخمة وعلاقات اليمن المتوترة مع السعوديةِ ورأى الرئيس ان ظهور الأميركان في الإقليم بهذا العدد ليس من أجل اليمن بالمرة، بل ل'تخويف' الجميع وفرض سيطرتهم المباشرة عليهمِ وكان يعتقد بأن القوات الأميركية لن تنصرف من الإقليم واتهم السعوديين الذين جاءوا بالقوات الغربية بدعوتهم لهاِ ونحى صالح في غضون ذلك مسألة استيلاء العراق على الكويت جانباِ بدا كأنه يوافق على أن التدخل العسكري في بلد آخر أمر غير حسن وكان يستغرب في الوقت نفسه لماذا لا تريد القيادة السوفيتية التعمق بالأسباب التي أجبرت صدام حسين للإقبال على هذا الفعل ولماذا أيد الاتحاد السوفيتي اتخاذ مجلس الأمن لقراراته المعروفة (امتنعت اليمن نفسها عن التصويت على خمسة قرارات من 10 اتخذت حتى هذه اللحظة)ِ وظن الرئيس ان كل شيء يمكن حله بمنتهى البساطة إذا أعطى الاتحاد السوفيتي ضمانات كافية بأنه لن تكون هناك ضربة عسكرية ضد العراق وإعطاء العراق جزيرتي وربة وبوبيان وحقل الرميلةِ وأعرب الرئيس عن اعتقاده بأن 'الأميركان يريدون إحراق الإقليم' ووصف ذلك بالإرهابِ وأعرب عن رغبته في أن تحلل القيادة السوفيتية من جديد الحالة عامة وتعيد النظر في موقفها مما يحدثِ وانتقد الرئيس بشدة القرار الذي يريد مجلس الأمن اتخاذه قريباِ
يفهم من سير مناقشتنا الطويلة مع صالح بأنه بالرغم من أن كل واحد منا بقي محتفظا برأيه، إلا أن الحديث لم يكن عديم الجدوى بالمرةِ بل ان هذا الحديث مكننا من معرفة طريقة تفكير الزعيم اليمني ومنحنا ذلك تصورا واضحا عن ماهية الحياد الذي يعلنه اليمن رسميا بالنسبة للنزاعِ ولا أشك في أن ثمة شيئا مشتركا مهما في مواقفنا وهو في الدور الأول إدراك خطورة بقاء الأزمة وضرورة الإسراع في حلها سلمياِ
كانت العلاقات اليمنية - السعودية متوترة بالفعلِ ولم يتجاهلوا في الرياض بالطبع، أن اليمن كان من بين الذين رفضوا تأييد القرار الخاص بإرسال قوات عربية للدفاع عن السعودية المتخذ في القمة العربية المنعقدة في أغسطسِ وكان رد الفعل هناك أكثر حدة على التظاهرات التي جرت في اليمن ضد دعوة السعودية للقوات الأجنبيةِ وحرمت السلطات السعودية ردا على ذلك، قرابة مليوني يمني من الساكنين في بلادها الوضع التفضيلي الخاص وساوتهم مع باقي المهاجرين العربِ ومعنى ذلك أن على اليمني لكي يجد عملا والحق في السكن الحصول على كفالة من سعوديِ ولم تكن هذه الإجراءات أمرا بسيطاِ وفي النتيجة اضطر آلاف اليمنيين ترك السعودية والعودة الى وطنهمِ وذكر الرئيس صالح في حديثه معي رقم 750 ألف شخصِ وهذا الرقم كان كبيرا جدا لبلد عدد سكانه نحو 11 مليون نسمةِ وهكذا أحرج العدد الكبير من النازحين حالا وضع اليمن، الذي كان يعد في ذلك الوقت أكبر بلد في الجزيرة من ناحية عدد السكان والأكثر فقرا، بمشاكل البطالة والاجتماعية الأخرىِ وأنهت الحكومة السعودية في الوقت نفسه التغذية المالية لجارها الجنوبيِ ومع ذلك لم يتشكل انطباع بأن القيادة اليمنية لم تكن تنوي تصحيح خطها السياسي الخارجيِ وأكدت الشهور اللاحقة ذلكِ
وجرت مناقشة بعض المسائل الثنائية الأخرى التي بدأها الرئيس صالح بعتاب حملني على الاستغراق: 'موسكو تضيق علينا الخناق'ِ واتضح فورا انه يقصد رغبة وزاراتنا ومؤسساتنا الحصول من اليمن على ديونها وتحويل التعاون العسكري الى مجرى مالي جديدِ فمن الصعب إبقاء كل شيء كالسابق، لأن الصعوبات المالية نشأت لدى الاتحاد السوفيتي نفسهِ أما الرئيس اليمني فكان يريد أن يبقى كل شيء كما كان في السابق وأن يستمر اليمنيون التعلم في الأكاديميات والمدارس العسكرية مجانا وأن يتقاضى الخبراء السوفيت المبعوثون الى اليمن مكافآت زهيدة للغاية، وأن تورد الى اليمن دفعات أسلحة وقطع غيار جديدة (بالدين من جديد) وأن تجمد المدفوعات حسب الاعتمادات القديمة والنسب المئوية للسنتين أو الثلاث سنوات القريبةِ وكانت للرئيس ادعاءات تجاه عاملي المجال النفطي السوفيتِ
كان للاتحاد السوفيتي في اليمن بالطبع، مصالحه ( دخول السفن، المرابطة الجوية ِِِالخ ) التي كان يقتضي تأمينها خدمات جوابية معينةِ غير أن الحالة العامة وإمكانات الاتحاد السوفيتي، المالية بالأخص، تغيرت بسرعة ليس بالاتجاه الأحسنِ وللأسف، لم يكن شركاؤنا في الخارج مستعدين لأخذ ذلك في الاعتبار على الدوام والاقتناع في الحالة الجديدةِ
ومع ذلك نفذت وعدي للرئيس صالح وبعثت الى موسكو برسالة تفصيلية تخص كافة قضايا التعاون الثنائي التي طرحهاِ
في القاهرة مع الرئيس حسني مبارك
في 15 نوفمبر وصلنا من صنعاء الى القاهرةِ لم أزر القاهرة منذ صيف 1986 عندما انتقلت من منصب السفير في مصر الى العمل في نيويوركِ وكنت أنتظر رؤية البلد مجددا بفارغ الصبرِ فالعاصمة المصرية ليست كبيرة فحسب، بل مدينة تتطور بصورة ديناميكيةِ وطاب لي على وجه الخصوص عندما احتلت السفارة مبنى جديدا على كورنيش النيلِ
وعندما قابلت في عام 1986 الرئيس حسني مبارك لأودعه، قال انني سأرحل عنه مع هدية جيدةِ وكانت الهدية هي البيت السكني نفسه الذي صادره منا في وقت مضى أنور السادات وأعاده الآن الرئيس المصري الى صاحبه الشرعيِ
عين مستعربنا المعروف فلاديمير بولياكوف سفيرنا في مصر للمرة الثانيةِ وهذا أمر يحصل نادرا في العمل الدبلوماسيِ وانتصر العدل في هذه الحالة بعد أن اضطر للمرة الأولى الى ترك مصر قبل الموعد بسبب تغيير النهج السياسي الحاد لأنور الساداتِ
ناقشنا بالتفصيل أزمة الكويت مع مدير ديوان الرئيس أسامة الباز ومن ثم مع وزير الخارجية عصمت عبد المجيد وفي النهاية مع الرئيس حسني مباركِ
كان الحديث في القاهرة يسيرا، لأننا كنا مع الرئيس بعمر واحد تقريبا وعرفنا بعضنا البعض والأهم بسبب تقارب مواقف الاتحاد السوفيتي ومصر بصدد الأزمةِ ولم تكن ثمة حاجة لإقناع أحد ما بشيء ماِ
ولوحظ حسب حديث حسني مبارك أنه اعتبر نفسه مخدوعا من صدام حسين ومس كرامته بكلامه اللاذع وتأثر لأن أكثر من 270 ألف مصري اضطروا بعد 2 أغسطس ترك العراق والكويت حيث كانوا يعملون بإخلاصِ وفي الوقت نفسه، كان من الواضح أن الانشقاق الحاصل في العالم العربي وبالأخص التصادم العسكري لا يتفق بالمرة مع تطلعات الرئيس وعن كيفية توجيه زمام الأمور في المنطقةِ وكانت مصر أول بلد استجاب لنداء الكويت والسعودية للمساعدةِ ارسلت مصر في البداية لواء مهمات خاصة ومن ثم فرقة آلية ولواءين للمدفعية وفرقة للدباباتِ وكانت القاهرة مثل موسكو، تفضل الحل السياسي وتعتقد أنه ينبغي منح بغداد بعض الوقت للتفكيرِ واقترح الرئيس مبارك في اليوم نفسه علنا، تأجيل استخدام القوة ضد العراق لشهرين أو ثلاثة، أملا في إنهاء الأزمة في هذا الوقتِ وكان موقف القيادة المصرية إيجابيا من أن مجلس الأمن صادق في مسألة استخدام القوة ويضع بهذه الطريقة بغداد أمام خيارين: إما الانصراف الطوعي من الكويت أو الحرب ضد التحالفِ
وقال حسني مبارك: نوجد بين نارينِ من جهة لا نريد الحرب وتدمير العراق ولا ندعو الى الضربة العسكريةِ ومن جهة أخرى لا نستطيع التسليم باحتلال الكويتِ ويمكن النظر في الادعاءات العراقية وراء طاولة المحادثات بعد سحب القوات العراقية الكامل من الكويت وتطبيق قرارات الأمم المتحدةِ ولكي نتوصل الى الحل السلمي يجب أن يدرك صدام حسين أنه اذا لم ينصرف في الوقت المناسب فان الضربة ستكون حتميةِ ولن يكون له دافع للمغادرة إذا لم يحدد موعد نهائي وتهديد مادي مقنع بالضربةِ وهناك مجال للمرونة من خلال الضغط العسكري والسياسي على السواءِ ورأى مبارك أن على الاتحاد السوفيتي وأعضاء مجلس الأمن الآخرين أن يحددوا وقتا معينا وواضحا لبغداد للانصراف من الكويتِ وأن لا يحاولوا التقدم بمبادرات جديدة لصدام حسين تترك له انطباعا كاذبا عن إمكانية المحافظة على ما استولى عليهِ فهو يحاول المماطلة في حل المشكلة وإيجاد ثلم في الائتلاف والمساومةِ وأشار مبارك الى أن الذي يريد الحل السلمي يجب ألا يقدم على الدوام مبادرات سلمية وألا يدخل في مساومات على المبادئِ لأن بغداد لا تزال ترى أن ثمة طريقة ثالثة ما تمكنها من إدارة الأزمة بمساعدة التكتيك والمماطلة والمناورةِ
ورأى الرئيس أنه كلما زاد عدد المبادرات، قل وضوح المواقفِ وقال مبارك ان المبادرة الفلسطينية خاطئة لأنها تقضي بتنازلات إقليمية للعراقِ وأصر على التمسك بثبات بقرارات الأمم المتحدةِ
ولم يرق للمصريين أيضا فكرة العاهل المغربي بعقد لقاء قمة عربية، لأن الانشقاق في العالم العربي لن يمكن من عقدها بشكل بناء ومقنعِ وعامة، لم يروا في القاهرة أن بإمكان العامل العربي لعب دور ملموس في مثل هذه الظروف وراهنوا على مجلس الأمن والتحالفِ
ودعا الرئيس، الاتحاد السوفيتي الى مواصلة إقناع صدام حسين بأن ليس لديه اي خيار آخر وأن له خيارا واحدا مقبولا هو مغادرة الكويتِ ونصح حسني مبارك في غضون ذلك بعدم الاهتمام بانتقادات بغداد لموقف موسكو ومحاولتها زعزعة هذا الموقف ومحاولتها ايضا الإظهار بأنه ليس لدى موسكو كما تزعم، سياسة خاصةِ وأن الاتحاد السوفيتي ينجر خلف الولايات المتحدةِ
وأشار الرئيس الى أن أكثرية البلدان العربية تتفهم أن الأمر ليس على هذا النحو ويجب ألا نسقط من الحساب تأثير الدعاية العراقية في بعض البلدانِ ونصح في هذه الناحية بتقوية اهتمامنا بتوضيح الموقف السوفيتي مع السودانيين والتونسيين والفلسطينيينِ وأشار الى تواجد الأحزاب الموالية للعراق في موريتانيا والأردن واليمن تتغذى من المعونات العراقيةِ
وتناولت في أثناء الحديث في القاهرة كذلك مسائل نظام الأمن المستقبلي في الإقليمِ وشدد الجانب المصري على أربعة شروط: لابد من مشاركة مصر في هذا النظام، تدمير الأسلحة النووية والجرثومية والكيميائية في الإقليم، عقد مؤتمر التسوية الشرق أوسطية والعلاقة بين الأمن والتطور الاقتصادي لبلدان الإقليم (تطبيقا للظرف الأخير ظهرت فكرة تقديم مساعدات خليجية للبلدان العربية الفقيرة)ِ ولم نناقش في الأحاديث الرسمية مسائل العلاقات السوفيتية - المصرية وثبتنا فقط بارتياح تطورها بتصاعد واتفقنا على مواصلتها وتنسيقهاِ
ومهما كان مكوثي في مصر لطيفا، لكني اضطررت السفر في المساء نفسه الى جدة حيث كان يمكث هناك الملك السعودي فهدِ
في جدة مع الملك فهد
تعتبر جدة العاصمة السعودية الثانية، حيث يقضي الملك جزءا معينا من السنة فيها لأن الحياة على ساحل البحر الأحمر أفضل من الناحية المناخية من الرياضِ غير أن لخريف 1990 خاصية وهي ازدياد عدد الأجانب بوصول القوات الأجنبيةِ
وصلنا الى جدة في ساعة متأخرة من الليلِ وبما أنه لم تكن في السعودية في ذلك الوقت ممثليات سوفيتية فقد استقبلنا الرسميون السعوديون فقطِ
انتظرتني في الفندق مفاجأة سمعتها بالراديوِ دار الحديث حول تصريح يفغيني بريماكوف في جريدة 'نيويورك تايمز' عارض فيه اتخاذ مجلس الأمن لقرار استخدام القوة ضد العراقِ واقترح بريماكوف القيام بمحاولة أخرى بغية إقناع صدام حسين ترك الكويتِ وأكد أن هذا قد يتم لو مكناه من إنقاذ ماء وجههِ واقترح بريماكوف أن يرسل أعضاء مجلس الأمن الدائمين وجامعة الدول العربية سوية كمبعوثين الى بغداد حاملين بعض الحوافز المناسبةِ وقيل في الحديث ان هذه المجموعة يجب أن تكون كبيرة وتتضمن آراؤها ربط أزمة الكويت بالتسوية الشرق أوسطية بما في ذلك المشكلة الفلسطينية وكذلك بعض الوصفات التي كانت تقترحها جامعة الدول العربية في حل المسائل المتنازع عليها بين العراق والكويتِ ويرى بريماكوف بأنه لو لم يرض صدام حسين بذلك فيجب في هذه الحالة اتخاذ قرار استخدام القوة في مجلس الأمن والإقدام حالا على العملية العسكريةِ ونتج عن خبر الإذاعة بأن بريماكوف أدلى بهذه الآراء قبل عدة ساعات في نيويورك، ورأى أن مثل هذه الأفكار ستقدم من قبل غورباتشوف بعد أيام في باريس أثناء لقائه مع جورج بوشِ
سمعت هذا الخبر الإذاعي ولم أصدق أذنيِ فقبل يومين فقط عندما غادرت موسكو كان تنظيم سلوكنا في باريس مختلفا تماماِ ولم تحتو المحادثات مع بيكر التي جرت قبل أسبوع واحد فقط في موسكو على اصغر تلميح الى إمكانية هذا التحول في الموقف السوفيتيِ وأهم شيء عكر نفسي هو الإشارة المباشرة الى أن موقفنا في باريس سيكون على هذا النحوِ
لقد التقيت مع بريماكوف أكثر من مرة وأعرفه كشخص مسؤول لا يرمي كلامه أدراج الرياحِ وفي غضون ذلك علي أن التقي بالملك فهد في الصباح بصفة ممثل ميخائيل غورباتشوف وعلي تشخيص الخط الذي يجب أن أتمسك به في حديثي مع الملكِ الخط السابق أو الخط الجديد الذي قبله الرئيس السوفيتيِ وكان هناك مخرج واحد: يجب الاتصال فورا مع موسكوِ وتصرفت هكذاِ ولحسن الحظ اتصلت هاتفيا بسكرتارية ادورد شيفرنادزه بسهولةِ وتكلمت مع المناوب وبعد أن وصفت له الحالة طلبت منه اطلاعي على الأمرِ لم تكن للموظف المعلومات التي كنت بأمس الحاجة إليها ووعد بتوضيح جوهر المسألة على أن أهاتفه بعد ساعةِ بعد أن نقرت رقم موسكو من جديد اتضح كل شيء حالاِ أخبروني بأن موقفنا كالسابق وأن يفغيني بريماكوف موجود في نيويورك بزيارة وأدلى برأيه الشخصي على ما يبدوِ وفي اليوم التالي عرفت بأن بريماكوف أدلى بآراء ( طابعها شخصي ) في حديث آخر للتلفزيون الأميركي أثارت ضجة كبيرةِ
تحرك سوفييتي في المنطقة
أثناء الحديث بين شيفرنادزه وبيكر في 8 نوفمبر حول العمل مع بلدان المنطقة، ذكر وزير الخارجية الاميركي أن نائبه كيلي يقوم الآن برحلة إلى البلدان العربيةِ واشار شيفرنادزه في هذا الصدد، الى أن الجانب السوفيتي ينوي أيضا إرسال نائب وزير الخارجية الى المنطقة في أقرب وقتِ
وعلى هذا الأساس، كلفني شيفرنادزه في اليوم نفسه بوضع جدول هذه الرحلة التي ينبغي أن تستمر عشرة أيامِ نظرت في مختلف الطرق وجداول مواعيد الطائرات واستنتجت أن هذا الدور يجب أن يكلف به مبعوثان أو نائبان لوزير الخارجية في آن واحدِ واقترحت فلاديمير بيتروفسكي شريكا لي في هذه المهمةِ أيد الوزير هذه الفكرة وانقسمنا مع بيتروفسكي: بحيث سيجري المباحثات مع بلدان المغرب وأنا سأجريها مع مصر وسوريا وبلدان الجزيرةِ
استلمنا وضع الممثلين الخاصين لرئيس الاتحاد السوفيتي، الأمر الذي رفع من إمكانية الالتقاء بأوائل المسؤولين في الدول التي نتوجه إليهاِ
وكان ثمة هدفان أمامنا: الأول، الحصول من الأيادي الأولى على تقدير كامل للوضع المتشكل والطريقة المفضلة للأعمال المقبلة من اجل التغلب على الأزمةِ والهدف الثاني، عرض تصورنا الخاص عن الوضع وآفاقه لرؤساء البلدان العربيةِ وافترضنا مداولة الموقف من قرار مجلس الأمن المعد ودور 'العامل العربي' الذي كان ميخائيل غورباتشوف يدعو الى تنشيطه والموقف من خط بغداد الرامي الى ربط أزمة الكويت بالتسوية العربية - الإسرائيلية ومحاولاتها إضفاء صبغة دينية على الأزمة (المسلمون ضد الكفار) وجر إسرائيل الى النزاع واستخدام الرهائنِِِالخِ كانت ثمة الكثير من الأمور بالفعل يمكن التكلم عنهاِ وإذا قلنا مجازيا، فقد كان علينا ضبط الساعات لنقنع الآخرين بأن خط الاتحاد السوفيتي الاستراتيجي والتكتيكي على السواء يبنى بصورة صحيحة ويأخذ في الحسبان العقليات السائدة في العالم العربيِ ومن المهم أيضا أن نحاول تعديل الصورة ( بالأخص في بلدان الخليج التي تقبل كل شيء بأشد صورته ) عن موقف الاتحاد السوفيتي المبهم بعض الشيء نتيجة تصرفات موسكو نفسهاِ
وثمة خاصية طبعت رحلتنا مع بيتروفسكي الى بلدان العالم العربي وهي أن بغداد كانت في هذا الوقت تصعد جدا سلوك المواجهة، وكذلك أصبحت لهجة بلاغتها أعلى بشكل واضحِ وفي 8 نوفمبر وعندما كانت المحادثات تجري في موسكو مع بيكر صرحت الجريدة الحكومية العراقية 'الجمهورية' عبر مقال هيئة التحرير بأن 'أم المعارك (هكذا كانوا يسمون في العراق الحرب المحتملة ضد التحالف) أصبحت اليوم أقرب'ِ وهددت الجريدة بأن العراق لو يكون هدفا للاعتداء ستتحول كل الجزيرة العربية الى رماد وسيرحمون مكة والمدينة فقطِ وأنذرت الجريدة الرسمية بأن 'اللهيب سيشمل كل شيء وفي كل مكان واتجاه'ِ
ولم يكشف وزير الخارجية الصيني تسيان تسي تشين الذي زار بغداد في 11 - 12 نوفمبر وتباحث طويلا مع صدام حسين وطارق عزيز، أية دلائل على استعداد القيادة العراقية تنفيذ مطالب مجلس الأمنِ وازداد الانطباع بأن بغداد غير مستعدة حتى البحث عن حل وسط واقعي عندما عرف موقف من بغداد من مبادرة ملك المغرب الحسن الثاني الذي تقدم به لعقد قمة عربية عاجلة خلال أسبوع للنظر في أزمة الخليجِ