السبت، 18 يونيو 2011

الكرملين وأزمة الكويت (3)


في الساعة الثانية من ليلة 1 - 2 أغسطس، بدأت الوحدات العسكرية العراقية المتكونة من 120 ألف شخص العدوان على الكويت شاقة جبهة واسعةِ وكانت العاصمة الكويتية هدفها الرئيسيِ واستخدموا في سيرهم الحثيث طريق السيارات العصري الذي يربط الكويت بالبصرةِ وضمت الوحدات العراقية خيرة تشكيلات الحرس الجمهوري المزودة بالدبابات الحديثةِ وسارت في نسق الهجوم الثاني وحدات المدفعية والمشاة الآليِ
كان التقدم سريعا وخاليا من المقاومة تقريبا بسبب عدم وجود وحدات عسكرية كويتية تقريبا في الشمال من العاصمة التي كانت الوحدات العراقية قد وصلتها الساعة الخامسة صباحا واستولت عليها بالكامل بمساندة فاعلة من المقاتلات والمروحياتِ وحتى الساعة الثانية بعد الظهر، كانت مباني كافة المؤسسات العامة ومحطة التلفزيون والإذاعة والمطار والميناء وغيرها من المواقع الهامة تحت سيطرة الجيش العراقيِ ودارت المعارك الرئيسية بالقرب من الثكنات والقصر الأميري دسمان حيث كان يقاوم فيه عدد من المدافعين ، واستشهد الأخ الأصغر للأمير الشيخ فهد الأحمد المعروف في البلاد والخارج بنشاطاته في اللجنتين الأولمبيتين الوطنية والآسيويةِ وأحرق قصر دسمان ومقر آخر للأمير في المدينةِ
وبعد أن استولت القوات العراقية على العاصمة تقدمت في عمق البلد واحتلته بالكامل خلال يومين ونيفِ كانت تعد حربا خاطفة واعتبرتها بغداد ناجحة تماما، حيث لم يصحبها سوى فشل واحد مزعج لها وهو خروج الأمير وعائلته وأعضاء حكومة الكويت من البلاد، بتمكنهم من الانتقال الى المملكة العربية السعودية المجاورة كمأوى لهمِ وانتقل أيضا الى العربية السعودية عدد من العسكريين أيضا وأحيانا مع معداتهم الحربية وخاصة الطائراتِ
وحاولت السلطات العسكرية العراقية قطع كل الاتصالات الخارجية مع الكويت مثل البحرية والجوية والهاتفيةِ وكان الأمر أعقد عند الحدود البريةِ فقد كان من المستحيل عمليا حجزها كلها في الصحراء وبدأ تدفق الناس الذين لا يريدون العيش تحت نير حكم بغداد عبر فتحات الحدودِ
ترك الكويت ثلث سكانها خلال الاحتلال ( استقبلت المملكة العربية السعودية وحدها 360 ألف لاجئ من الكويت )ِ وكان للهجرة الكثير من الأسباب بما فيها القتل والتعذيب وحالات النهب والاغتصاب التي تعرض الناس إليها فورا تقريباِ
ومع ذلك تكون لدى الكثيرين انطباع بأن سلطات الاحتلال لم تكن تمنع رحيل الناس وجرى ذلك بوعي تام، حيث كان تنوي تغيير تشكيلة الكويت الديموغرافية بهذه الطريقةِ وبالعكس، تدفق سيل من النازحين العراقيين الى الكويتِ
موسكو تحدد موقفها
حصل أنهم عرفوا في الاتحاد السوفيتي عن بداية العدوان العراقي على الكويت من الأمريكانِ وكانت استخباراتهم الفضائية التي كان الخليج، ولأسباب مفهومة، موضوع اهتمام متزايد، تخبر على الدوام المعلومات الخاصة بتحرك القوات العراقية قرب الحدود مع الكويت وإعادة تنظيمها وتشكيلهاِ غير أن المحللين في واشنطن لم يستعجلوا في اتخاذ استنتاج نهائيِ وكانت دائرة المخابرات المركزية تقدر فرص الاعتداء حتى قبل بضعة ساعات من وقوعه كخمسين الى خمسينِ وفي كل الأحوال توقعوا أن ينتهي الأمر بالاستيلاء على الجزيرتين اللتين كان العراق يدعي بهما منذ زمن بعيد ومنطقة الحدود، الأمر الذي كانت واشنطن مستعدة للموافقة عليه وإغماض عينها عنه عموماِ
وكانت تأكيدات الزعماء العرب تهدئ الكويتيينِ ويؤكدون بأن الملك حسين اتصل هاتفيا مرتين مع الرئيس الأمريكي بوش في 28 و 30 يوليو بهذا الصددِ ولهذا لم يدق جرس الإنذار في حاملات الطائرات الأمريكية القريبة من الخليج للتوجه على عجل الى منطقة النزاع المحتملِ
ومع ذلك، رأى مستشار الرئيس الأمريكي لمسائل الأمن القومي الجنرال برينت سكوكروفت ان من الضروري إنذار الرئيس بوش في الساعة الثامنة وعشرين دقيقة مساء بزيادة احتمال العدوان العراقيِ وقبل ذلك أنذرت وزارة الخارجية الأمريكية في المعنى نفسه مسؤولها جيمس بيكر الذي كان في تلك اللحظة يجري محادثات في إركوتسك الروسية مع أدوارد شيفرنادزهِ وكان وزير الخارجية السوفيتي يقول فيما بعد أكثر من مرة ( كتب ذلك بشكل واضح في كتابه " خياري " ) بأنه لم يستطع الاعتقاد بأن بوسع القيادة العراقية القيام بمثل تلك الخطوة الطائشةِ
كان شيفرنادزه قد زار العراق قبل عام وتناقش مع صدام حسين لعدة ساعاتِ ورأى بعينيه مدينة البصرة المدمرة وتكونت لديه فكرة بأن الأولويات العراقية لا تقبل عدوانا جديدا بكل بساطةِ وقال لبيكر عندما أبلغه بإنذار الخارجية الأمريكية : 'لا يوجد أي منطق في هذا التصرف'ِ
أخبرت السلطات الكويتية بعد معرفتها ببداية الاعتداء بسرعة السفارة الأمريكية ولم تطلب من الأمريكان أية مساعدة، معتقدة أن القوات العراقية ستتوقف في اللحظات القريبةِ وما أن شعر الكويتيون بأن هذه القوات لا تنوي التوقف زاد قلقهم وطلبوا المساعدة للمرة الأولىِ ووجهت إذاعة الكويت نفس النداء الى جميع البلدانِ وأبلغت السفارة الأمريكية وزارة الخارجية بتطور الأحداثِ
كانت في هذه الأثناء الساعة التاسعة مساء في واشنطن، عندما أصبح واضحا أن العدوان العسكري الواسع النطاق بينِ واجتمعت جماعة الأزمة في مجلس الأمن القومي الأمريكي بسرعة مبتدئة العملِ وأصدر البيت الأبيض في وقت متأخر من الليل بيانا موجزا استنكر فيه الاعتداء ودعا بغداد الى إنهائه فوراِ وفي الساعة الخامسة صباحا وقع الرئيس جورج بوش أمرا بتجميد جميع الحسابات الكويتية والعراقية لكي لا تستغلها بغدادِ
وانتهت المحادثات في إركوتسك بين شيفرنادزه و بيكر وبينما كان كل منهما يهم بالعودة وصلهم خبر عدوان العراق على الكويتِ لم يكن واضحا لهم عمق التدخل وأهدافهِ ولذلك ناقش رئيسا الإدارتين الخارجيتين الحالة بشكل موجز وبطابع عامِ ولم يبديا أية تصريحات علنية بصدد الأزمة واتفقا على إدامة الاتصالات الوثيقةِ
توقيت موسكو والكويت واحدِ أي أن الاعتداء العراقي على الكويت بدأ بالنسبة لموسكو في الساعة الثانية ليلا أيضاِ وعرفت النبأ في الصباح الباكر عندما دق هاتف من سكرتارية الوزير حال وصول الإشارات المقلقة الأولىِ وعندما وصلت الى الخارجية كانت المعلومات ناقصة للغايةِ وبرزت حالا جملة من الأسئلة : ما هو هدف الاعتداء، وإلى أي مدى سيذهب العراق في هذا العمل غير المفهوم لحد الآن، وما هي حالة مواطنينا في الكويت (كان عددهم 800 شخص تقريبا) وكيف يمكن تأمين سلامتهم، هل أن جميعهم أحياء وكيف يجب صياغة موقف الاتحاد السوفيتي السياسي، ومتى وماذا وبمن ينبغي إعلانه باسم بلدنا وكيف سيكون سلوكنا في مجلس الأمن حيث ستطرح مسألة العدوان حتما؟ وهل ينبغي اتخاذ خطوات من جانبنا حيال بغداد، وإذا كان ذلك ضروريا فما هي وعلى أي مستوى؟
واقتضى الأمر أن نحدد موقفنا من جميع هذه المشاكل المنهمرة، دفعة واحدةِ
كنت متيقنا جدا بأن الأنظار في العالم أجمع ستتجه الآن نحو موسكو بالذات: كيف سنرد فعلا؟ِ فلم يخف على أحد أن العراق يعتبر واحدا من أكبر زبائننا العسكريين وأن ثمة خبراء عسكريين كثيرين في العراقِ فما هو موقف موسكو من تدخل 'محسوبها' المسلح في الكويت؟ هل سيتحدد الموقف ممتزجا بروح 'الحرب الباردة'؟ أو بصورة جديدة؟ وماذا سيؤخذ بمثابة المقياس؟
كان من الواضح أن موسكو وضعت أمام امتحان خطير لقياس نضجها السياسي والأخلاقيِ وطرحت المسألة بالنسبة لنا على المكشوف وبصورة مبدئية: كيف نتصرف؟ وكان على قيادة الدولة العليا أن تجيب فوراِ
وفي غضون هذه المعمعة لم يكن أدوارد شيفرنادزه في موسكو ( لم يصل بعد من إركوتسك ) وكان ميخائيل غورباتشوف يتمتع بإجازة في القرم مع مساعده للشؤون الدولية أِ تشيرنايفِ وكان من الممكن تذليل هذه الصعوبات بالطبع، لكن الأمر بحاجة الى وقتِ بل كان هذا الوقت شحيحا جداِ ففور إعلان الأنباء سينهال على وزارة الخارجية وابلا من دقات الهاتف من اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفيتي والحكومة والمؤسسات ووسائل الإعلام والمواطنين العاديين الذين يتواجد أقرباؤهم في الكويت والعراقِ لذا وجب البدء في إدراك جميع المسائل الخاصة بالوضع وتقليب نظام الأعمال وطرقه وإعداد المقترحات للقيادة فوراِ
جمعت المسؤولين في دائرة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا التي كانت مختصة بعلاقتنا مع العراق والكويتِ وبعد أن أجريت تبادل الآراء الموجز حول الأزمة، تحدثت عن ما ينبغي أن ننشغل به الآن ووزعت التكليفات : من يجمع من كافة المصادر الممكنة المعلومات ويعممها ومن يعد مشروع البيان (قررنا حالا أن هذا البيان سيكون بيان الحكومة أيضا لأهمية المسألة) ومن يعمل على إعداد نص النداء المزمع توجيهه الى بغداد ومن يتصل على عجل بممثليتنا في الأمم المتحدة؟ِِِالخِ وبعد أن وزعت الواجبات انشغلت بأمر آخر وهو مهم بالدرجة الأولى: اللقاء مع السفير الكويتي الذي توجه بطلب استقباله على عجلِ
ووضحت لدينا خلال المعلومات المتوافرة واقعة العدوان المسلحِ ولم يكن واضحا قط لماذا أقبلت بغداد على هذه المخالفة الخشنة للقانون الدولي وميثاق الأمم المتحدةِ لقد صادف وتسنى لي عام 1957 أن شاركت في وضع مفهوم 'العدوان' في اللجنة الحقوقية للجمعية العامة للأمم المتحدة والذي أقر فيما بعد رسميا بقرار من الجمعيةِ وكان مفهوم 'العدوان' منذ ذلك الحين واضحاِ ولذلك وبصفتي حقوقيا، لم يكن لدي أدنى شك في كيفية وصف تعسف القوات العراقية ( وكيف سيصف المجتمع الدولي هذا ) في أراض دولة ذات سيادة وعضو في الأمم المتحدة وهي الكويتِ
ومع ذلك، كان ثمة ما ينبغي التأمل فيه : دار الحديث حول النزاع بين الدولتين العربيتين اللتين للاتحاد السوفيتي مع كل منهما نظام للعلاقاتِ وكان حجم العلاقات من الناحية المادية مع العراق يتجاوز كثيرا جملة مصالحنا الاقتصادية في الكويتِ ولا يتحدد الأمر بالمسائل المالية والاقتصادية، فقد كانت هناك عوامل تاريخية وسياسية وعسكرية وحتى إنسانية تربط الاتحاد السوفيتي بالعراقِ وكان من واجبنا أن نأخذها في الاعتبار في غضون إعداد المقترحات للقيادة العلياِ وكانت واقعة أن قرابة 8 آلاف مواطن سوفيتي موجودون في العراق لوحدها أمر خطير جداِ
وعموما، لم تكن علاقاتنا السياسية سيئةِ ففي عام 1972 أبرمت معاهدة الصداقة والتعاون وكانت الزيارات على مختلف المستويات تجري بانتظام بينناِ وكان كلا الطرفين يعامل بعضه الآخر بقدر معين من التحفظ، وكان لذلك أسبابه: إعدام الشيوعيين العراقيين واضطهادهم، استخدام السلاح الكيميائي ضد الأكراد، كبت مخالفة الآراء الرسمية بشكل قاسِ وكان التطور الاجتماعي في البلدين يختلف أكثر فأكثرِ فبينما كنا نسير نحو الحرية والديمقراطية، كان العراق يزيد من ضغطه على الحريات وتتزايد ظاهرة عبادة صدام حسينِ لكن هذه الخلافات لم تظهر بصورة ملحوظة في العلاقات الرسمية، فقد كانت متأدبة وتتميز بالعطف المتبادل، غير أن التحفظ الباطني كان موجوداِ وكان هذا التحفظ وفي درجة معينة منه، أدى الى انغلاق النسق العراقي الأعلى وضاعف في تشكيل خواصه الوخيمة الحبلى بالمفاجآتِ وعدت تقلبات الحرب العراقية - الإيرانية بالنسبة لنا في هذا المعنى إنذارا معينا، وها هي المفاجأة الجديدةِ
العلاقات مع الكويت
أما الكويت فأقيمت العلاقات الدبلوماسية معها في عام 1963 وكانت العلاقات تتطور منذ ذلك الحين بلا اعوجاج ويميزها اتجاه مستقر نحو توسيع التعاون بالرغم من الفرق الخطير في الاتجاهين السياسي والاجتماعيِ غير أن المراعاة الحازمة في عدم التدخل في الشؤون الداخلية ساعدت على نمو الثقة المتبادلةِ والكويت بالذات افتتحت أول سفارة سوفيتية على أرض الجزيرة العربيةِ وساعدت الكويت على ظهور سفاراتنا بمرور الوقت في الإمارات العربية وقطر وعمانِ واستجاب الاتحاد السوفيتي بدوره لمطلب الكويت بتأمين سلامة نقل نفطها عبر الخليج في واحدة من أسخن أوقات الحرب العراقية - الإيرانيةِ صحيح أن الأمر لم يصل الى مرحلة التنفيذ، لأن الأمريكان أخذوا هذه المهمة على عاتقهم بعد أن رفضوا طلبا كويتيا مماثلاِ
وكان الاتحاد السوفيتي يشارك في إنجاز بعض المشاريع ذات الطابع الاقتصادي والتكنولوجي في الكويتِ وكان يزداد بهذا السبب عدد الخبراء المدنيين السوفيت العاملين هناكِ وقد بلغ عددهم قبل الأزمة بضع مئاتِ وأرسيت البداية للتعاون في المجال العسكري أيضاِ وقدمت الكويت لنا عددا من القروضِ ووجدت مصالح مشتركة ونقاط لقاء في مجال السياسة الخارجيةِ لذلك لكلا البلدين الأسس لكي يكونا مرتاحين بتطور علاقاتهما وتقدمها، الأمر الذي كان يؤكده تبادل الوفود والمحادثات المستمرةِ
وإذا كانت لموسكو علاقات حسنة مع العراق والكويت على السواء، فأنها معنية بطبيعة الحال، بالمحافظة عليها وتطويرها المطردِ وكنا كذلك بحاجة الى السلام في الشرق الأوسطِ وها نحن وجدنا أنفسنا أمام أفق لأزمة دولية كانت تخالف تماما مصالحنا من الناحية العامة وفي علاقاتنا مع العراق والكويت على السواءِ
في غضون ذلك كانت الأخبار الواردة من هناك تثير قلقنا أكثر فأكثرِ أولا، لم تدل على اعتداء فحسب، بل عدوان شامل للقوات العراقية على الكويت باستخدام عشرات الآلاف من الجنود وعدد كبير من الدبابات والصنوف الأخرى من القوات بما فيها الطائراتِ وكانت العملية تسير نحو الاستيلاء على البلد بأكملهِ وتقوى هذا الإحساس بما انتهجته إذاعة بغداد صراحة منذ الصباح بصدد " ظفر الشعب العراقي العظيم المجرب ودرع الأمة العربية وعنوان فخرها ورمز عزتها " والذي تساعد " قواته المسلحة المجيدة " في اجتياح الكويت وتخليصها من " النظام الخائن المنفذ لمؤامرات الصهيونية والأجنبية الأخرى "ِ ولم تبخل إذاعة بغداد بكيل الهجمات على القيادة الكويتية التي تواجههم ب " بالمناضلين في سبيل الحرية " الذين نفذوا كما زعمت القيادة العراقية بطلب الدفاع عن " الثورة الكويتية " وسكان الكويت من الدسائس الخارجيةِ
واحتل في إذاعة بغداد مركز الصدارة بيان مجلس قيادة الثورة الذي جاء فيه أن إدخال القوات الى الكويت تم بناء على طلب من " حكومة الكويت الحرة المؤقتة "ِ وأن القوات العراقية ستنسحب " عندما تستقر الأوضاع وتطلب منها الحكومة الحرة المؤقتة ذلك "ِ ويتضمن البيان أيضا تهديدا مباشرا بتحويل " العراق البطل والكويت العزيزة الى مقبرة لمن سيتطاولون على القيام بعدوان والذين يحركهم السعي الى التدخل والخيانة "ِ
بدأ جوهر ما يحدث يتضحِ وأصبح مفهوما أن النزاع تجاوز نوعيا إطار الجدال الحدودي بتبعية الجزر وجزء من حقل الرميلة الجنوبي كما كان الكثيرون يفترضون ذلك في بداية الأزمةِ وانتقلت المشكلة الى بقاء الكويت كدولة مستقلة مع سلطتها الشرعية التي وجدت هناك على مدى قرنين ونصف القرنِ وعلمنا بأن رواية
" الحكومة المؤقتة " ما هي إلا جزء من ادعاءات بغداد بكامل الكويت وامتصاصها عملياِ
ومهما كان الأمر، رأى خبراء وزراء الخارجية في مسائل العالم العربي الذين بحثت معهم صباح 2 أغسطس آفاق تطور الأوضاع بأن مثل هذه الوسائل والطرق ممكنة تماماِ
ولم نكن نريد، والحق يقال، أن نؤمن بذلكِ فعواقب هذا التهور وخيمة للغايةِ وكنا في موسكو نقدر العلاقات مع العراق حق قدرها ولم يرغب أحد في أن يحل في شعبه أية نكبةِ
وتلخصت نتائج اجتماعات العمل في وزارة الخارجية فيما يلي : يجب أن يكون رد الفعل على العدوان على النحو الذي نؤكد فيه على مخالفة العراق للقانون الدوليِ والتقيد بما لا يجوز أن نقوله في بداية الأمر وستتعلق تقديراتنا القادمة على تصرفات بغدادِ وينبغي أن يكون انسحاب القوات العراقية من الكويت بلا تأجيل وإعادة سيادة الكويت الكاملة من أهم مطالبنا في الوقت الحاضرِ ونضيف الى هذا النداء دعوة الى تسوية المسائل المتنازع عليها عن طريق المحادثاتِ ويجب أن تكون لهجة البيان حازمة وخالية من التهديد وأن تتسم بالأسف والحيرة لما حدث ويشوبها الأمل في انتصار البصيرة لحل المسألة سريعا بشكل سلميِ
اتفقنا أن تبنى هذه المعاني في البيان العلني وندائنا السري الى صدام حسين على السواءِ ويجب التمسك بهذا النهج في هيئة الأمم المتحدة أيضاِ
وقررنا تقديم الاقتراحات بإيقاف إمدادات الأسلحة السوفيتية الى العراقِ ويمكن القول إن هذه المسألة نشأت تلقائيا، فقد استخدمت بغداد أسلحتنا ليس لأغراض الدفاع كما نصت عليه اتفاقياتناِ وكنا أوقفنا توريد الأسلحة الى العراق في عام 1975 عندما استخدمها ضد الأكراد داخل العراق وكذلك أوقفناها عام 1980 عندما هاجمت القوات العراقية إيرانِ واستأنف إمداد العراق بالأسلحة بعد أن طردت إيران قواته الى الخلف وانتقل العراق الى مرحلة الدفاع عن أراضيه الخاصةِ ولم يكن في مثل هذا الموقف شيء معاد للعراقِ وكان موقف الاتحاد السوفيتي محصورا على الدوام في أن الأسلحة السوفيتية تورد لأغراض دفاعية فقط وكان شركاؤنا يدركون ذلك جيداِ
لا أريد أن أخفي بأنه بعد ورود المعلومات عن الاعتداء العراقي المكثف نشأ عندي شعور مضجر جدا بأن بغداد " كعبلت " موسكو من جديد باستخدامها الأسلحة السوفيتية لتحقيق أهداف جائرةِ وأصبح معلوما في اليوم التالي مثلا، أن الدور الرئيسي في القفز على الكويت عين للدبابات السوفيتية " تي 72 "ِ وعندما تستعمل الأسلحة الأجنبية المشتراة بخلاف القانون الدولي فإن ظلالها السيئة تلقى على الموردين شئنا أم أبيناِ وليس من المستغرب أن موسكو لم تستطع أن تشاطر إذاعة بغداد بهجتهاِ فليس التنكيل العسكري ببلد صغير وغير مسلح تقريبا أمرا سيئا للغاية فحسب، بل أن السلاح السوفيتي استخدم لتحقيق هذا الهدفِ ولكي أسهب قليلا، فأن صحفنا المركزية كتبت في اليوم التالي 3 أغسطس بأنه " بعد العدوان العراقي المسلح على الكويت اتخذ الاتحاد السوفيتي قرارا بإيقاف إمدادات الأسلحة والمعدات العسكرية الى العراق "ِ وكانت لهذه الخطوة أهمية سياسية وعسكرية كبيرةِ ومن المميز أن الصحافة الغربية والأمريكية بشكل خاص أبرزت هذا القرار على صدر صفحاتها الأولىِ
وعندما عاد أدورد شيفرنادزه من إركوتسك الى موسكو ووصل الى وزارة الخارجية، كانت لدينا مجموعة من مشروعات الوثائق من الدرجة الأولى جاهزةِ وبعد ظهور الوزير أصبح وضعي أيسرِ وما شجعني أن الوزير استحسن الوثائق المعدة بواسطتنا ولم يجر عليها تعديلات ملموسةِ وأسرني أن الاقتراحات المقدمة من قبل الوزير لميخائيل غورباتشوف الموجود في القرم نالت تفهم الرئيس وتأييدهِ
وكان من بين هذه المقترحات نص بيان الحكومة السوفيتية المنشور في 2 أغسطس بواسطة وسائل الإعلام الإلكترونية والمنشور في اليوم التالي في الصحافةِ وأشير في هذا البيان الى أن أي مسائل متنازع عليها لا تبرر استخدام القوة وأن تطور الأحداث يناقض أصلا مصالح الدول العربية ويعرقل إيجاد تسوية النزاع في الشرق الأوسط ويتنافى مع اتجاهات التصحيح الإيجابية الجارية في الحياة الدوليةِ
وجاء في البيان أن القيادة السوفيتية تعتقد أن " سحب القوات العراقية بلا قيد أو شرط وبلا تأجيل من الكويت من شأنه إزالة التوتر الناشئ في الخليج " و " يجب أن تعاد بالكامل سيادة واستقلال ووحدة أراضي الكويت "ِ
شكلت موضوعات هذا البيان التي كتبتها كلمة تقريبا أساس موقف الاتحاد السوفيتي من الأزمة الكويتيةِ وكانت بعض عناصر هذا الموقف تدقق وتتطور فيما بعدِ غير أن الفكرة الرئيسية وهي انسحاب القوات العراقية من الكويت وإعادة سيادتها واستقلالها ووحدة أراضيها حافظت بالكامل على قوتها حتى نهاية الأزمةِ
وأصبحت هذه الأفكار محور ارتكاز موقفنا في هيئة الأمم المتحدة في غضون النظر الى نواحي الأزمة المختلفةِ
3 طلبات كويتية
عندما تحدث لبلد مصيبة ما فان سفيره حتى لو تمالك نفسه بشكل ممتاز فلا يستطيع ضبط مشاعره الجياشةِ وكان توتر السفير الدعيج الداخلي كبيرا وباديا على ملامحهِ وعندما دخل الى مكتبي كانت جمله متقطعة وموجزة ورشيقة كعادتهاِ وانحصر جوهر خطابه فيما يلي : خرقت القوات العراقية حدود الكويت الرسمية واحتلت الجزء الشمالي من البلادِ وتوجد في الوقت الحاضر في ضواحي العاصمة ويحدث إطلاق نار على مقر رئيس الدولة ورئيس الوزراء وكذلك على المطار الدوليِ وقال السفير بأن قيادة الكويت تتوجه الى القيادة السوفيتية بطلب اتخاذ كل الإجراءات من أجل إنهاء الاعتداء العراقي في أقرب وقت ممكنِ وتطلب من موسكو الاتصال ببغداد بصورة عاجلة وكذلك تشغيل آلية مجلس الأمنِ
وعدت السفير بإخطار القيادة السوفيتية بلا إبطاء بالنداء الكويتي الموجه إليهاِ وقلت إذا طلبت الكويت عقد جلسة عاجلة لمجلس الأمن سنؤيد مطلبهاِ وبعد أن أشرت الى أن ثمة مبادئ للقانون الدولي معترف بها من الجميع تنظم بدقة سلوك الدول، أكدت له بأن الاتحاد السوفيتي سيسترشد بها بالذات في تقدير ما حدثِ
إذن، تلقينا أولا، نداء الكويت الرسمي بطلب المساعدة في أسرع وقت لوضع حد للاعتداء على الأراضي الكويتية وإنهائهِ ثانيا، تلقينا الطلب بإقامة الاتصالات مع بغداد على عجل في هذا الصددِ وثالثا، طلب تشغيل آلية مجلس الأمن للهدف ذاتهِ
كانت الطلبات الثلاثة شرعية ومنطقية وتنطلق من بلد كان الاتحاد السوفيتي يحتفظ معه بعلاقات وديةِ ومن البديهي أن الاتحاد السوفيتي كدولة عظمى وعضو في مجلس الأمن يحمل على عاتقه نصيبا غير قليل من المسؤولية في المحافظة على السلام والشرعية الدوليةِ كان له الحق وحتى الالتزام المباشر في أن ينبري في أي حال للدفاع عن ضحية العدوان وحتى بلا نداء الكويت الشكلي بالطلب بنصرتهاِ ومن غير المشكوك فيه في آن واحد أن النداء الموجه كان يقوي بالنسبة للاتحاد السوفيتي الجانب المعنوي والحقوقي ويدفعه الى الفعلِ
العلاقات السوفيتية- العراقية
أقام الاتحاد السوفيتي العلاقات الدبلوماسية مع العراق عام 1944. وقطعت عام 1955 من قبل النظام الملكي العراقي (نتذكر في هذا الصدد حالا حلف بغداد)ِ وأعيد إنشاء العلاقات بعد ثورة يوليو 1958. وبدأ منذ ذلك الحين تعاوننا العسكري التكنولوجي مع العراق الذي اكتسب بالتدريج الوضع السائد في حجم الصلات العامة مع هذا البلدِ وردت الى العراق الدبابات وناقلات الأشخاص المدرعة والمدافع والمنظومات الصاروخية المتعددة الحشوات، صواريخ 'أرض - أرض '، الطائرات، المطاردات، قاذفات القنابل، المروحيات القتالية، وسائل الدفاع الجوي والاتصالات والذخائر ومهمات عسكرية أخرىِ ولم نكن نورد الأسلحة الى العراق فحسب، بل كنا نساعده في تنظيم إنتاجه العسكري الخاص أيضاِ وكان إعداد الكادر العسكري من أوجه التعاون الكبير أيضاِ فقد تخرج عدد كبير من الضباط العراقيين من المدارس والأكاديميات العسكرية السوفيتيةِ وكنا نساعد العراقيين في استيعاب المعدات العسكرية السوفيتية داخل العراق أيضاِ وبشكل قاطع لم نساعد العراق على اقتناء أسلحة الدمار الشامل : الكيميائية والبيولوجية والنووية (كانت بعض الشركات الغربية ترتكب هذه الخطايا، للأسف)ِ
وأتى التعاون العسكري التكنولوجي خلال ثلاثة عقود للميزانية السوفيتية 12 بليون دولار، وهذا المبلغ ليس بقليل بالطبعِ زد على ذلك بقى العراق مدينا لنا لغاية عام 1990 بعدة بلايين الدولاراتِ واتفق على أن تتم تغطيتها بحصص متساوية بما في ذلك إمدادات النفط (ليس للاتحاد السوفيتي مباشرة، بل لحساب الإمدادات السوفيتية الى بلدان ثالثة)ِ
وإذا كان حجم التعاون السوفيتي - العراقي في المجالين العسكري والمدني تتناسب ل 10 الى 1، فان الأمور في المجال غير العسكري كانت تسير بشكل لا بأس به أيضاِ فالمعدات والمنتجات الجاهزة عادلت نسبة 95% من التصدير السوفيتي الى العراقِ وكان التعاون الاقتصادي يجري كذلك، بمشاركة الاتحاد السوفيتي في بناء المنشآت الوطنية والاقتصادية المختلفة في العراق والتي كان أكبرها استثمار موقع غرب القرنة وبناء خط أنابيب الغاز الناصرية - بغداد وبناء المحطة الكهروحرارية في اليوسفيةِ وبني في العراق في السنوات التي سبقت الأزمة الكويتية مباشرة وبمشاركتنا قرابة 100 منشأةِ ونسقت الأفكار المبدئية الخاصة لتنفيذ مشاريع طويلة الأجل لتطوير التعاون التجاري والاقتصادي مع العراق حتى عام 2005ِ