السبت، 18 يونيو 2011

الكرملين وأزمة الكويت (4)

في الساعات نفسها تقريبا التي كان يجري في موسكو العمل على قدم وساق لجمع المعلومات الأولية وتقديرها وإعداد مشروعات الوثائق، كانت الحياة مهتاجة في مقر الأمم المتحدةِ ومن السهل لي معرفة ما كان يحدث هناك لأني على اطلاع جيد على آلية عمل الأمم المتحدة والقواعد والعادات، خلال السنوات الأربع التي شغلت فيها منصب ممثل الاتحاد السوفيتي في مجلس الأمن، وأعرف الأشخاص الذين كان عليهم الآن اتخاذ القرارات المناسبة باسم المجتمع الدوليِ وكانت الأحداث هناك تتطور على النحو التالي :
كان ممثل الولايات المتحدة الدائم توماس بيكيرينغ أحد أفضل الدبلوماسيين الأميركان المحترفين الذي تعاملت معهم، وكان أول عضو بين ال 15 الباقين في مجلس الأمن يعلم بالعدوان على الكويتِ فقد اتصل الرئيس بوش شخصيا ببيكرينغ في المساء وكلفه باتخاذ جميع الإجراءات الضرورية لكي يعقد سوية مع السفير الكويتي على عجل جلسة مجلس الأمنِ
كان الموظفون رفيعو المستوى في الأمم المتحدة ينظرون سلبا على الأرجح، لتصرفات الولايات المتحدة ومحاولتها إعاقة سير آلية العمل بشكل مفيد وطبيعيِ ولكنهم تذكروا حالا مجلس الأمن بسبب انعدام أي شيء آخر في تلك اللحظات يمكنه مواجهة العدوان العراقي، بل كان من الواجب الرد عليه بسرعةِ ولعبت أيضا دورها حقيقة أن جورج بوش نفسه كان يشغل منصب ممثل بلاده في الأمم المتحدة ويدرك أفضل من غيره أهمية مجلس الأمن وإمكاناته من وجهة نظر تعبئة الرأي العام العالمي وتأسيس قاعدة حقوقية ضرورية لاتخاذ الخطوات اللاحقةِ وكان على مجلس الأمن إدراك ماهية هذه الإجراءات والحاجة إليهاِ وكانت الحالة غامضة بما فيه الكفاية حتى الآنِ
أخبروا الأمين العام للأمم المتحدة بيريس دي كويلار عما حصل وأمر بالبدء فورا في الإعداد لعقد جلسة طارئة لمجلس الأمن، ترأسه فيما بعد ف ِ سفرانتشوك نائبه لشؤون مجلس الأمنِ ولكن لكي تعمل آلية المجلس، لابد لدولة ما التوجه بطلب رسمي لعقد اجتماع طارئِ وحسب منطق الأشياء وجب أن تقوم الكويت بذلكِ غير أنهم لم يعثروا على ممثل الكويت الذي لم يكن يعرف شيئا عن هذه المصيبة التي حلت ببلدهِ واضطر بيكيرينغ نفسه توجيه الطلب المناسب الى الأمم المتحدة باسم الولايات المتحدة بينما جاء الطلب الكويتي ثانيا في وقت لاحقِ
وفي الوقت الذي كان فيه العمل جاريا بتبليغ أعضاء مجلس الأمن ورئيسه الراهن (يتبادل رؤساء المجلس كل شهر وكان ممثل رومانيا مونتيانو رئيسا في أغسطس ) وموظفي سكرتارية الأمم المتحدة، انشغل بيكيرينغ في إعداد مشروع القرارِ وانحصرت فكرته في أن يكون قصيرا ومركزا ومكتوبا على ذلك النحو الذي لا يثير معارضة أو شكوك أحد ما من أعضاء مجلس الأمنِ
نجح بيكيرينغ في ذلك واشترك معه ثمانية أعضاء آخرين في مجلس الأمن في صياغة نص القرار وهم : بريطانيا، فرنسا، كندا، فنلندا، كولومبيا، ماليزيا، أثيوبيا وكوت د إفوارِ وكان خلفي في مجلس الأمن السفير يولي فورنتسوف في ذلك الوقت في إجازة، ومثل الاتحاد السوفيتي في هذا الاجتماع نائبه الدبلوماسي المجرب جدا لوزينسكي، حيث مثل بلادنا في المجلس خلال كل أغسطس تقريباِ
وفي الوقت الذي كان فيه رئيس مجلس الأمن يجري المشاورات المقررة في جدول أعماله ونواحي الجلسة المقبلة الأخرى مع أعضائه، كنا في موسكو نحلل بسرعة مشروع القرار الذي بعثه لوزينسكي ونعد مقترحاتنا الى القيادة وتعليماتنا له والخاصة بتصرفاته اللاحقةِ
بدأت جلسة مجلس الأمن الرسمية في الساعة الخامسة صباحا تقريبا بتوقيت نيويوركِ ووفقا لقوانين هيئة الأمم المتحدة دعوا ممثلي الكويت والعراق كطرفين معنيين مباشرة بالمشاركة في الجلسةِ
كانت كلمة ممثل الكويت محمد ابو الحسن الذي أعطيت له أولا انفعالية ومليئة بالإحساس بالغبن والحيرة بصدد هجوم 'العراق الشقيق' على الكويت التي ساعدته كثيرا في الحرب ضد إيرانِ وطالب عبد الحسن بالتدخل الفوري وسحب كافة القوات العراقيةِ وكان من الصعب انتظار كلمة أخرى منهِ
ألقى 11 عضوا في مجلس الأمن كلماتِ واعتمدت كلمة ممثل الاتحاد السوفيتي لوزينسكي على بيان الحكومة السوفيتية الذي تسنى لنا إحالته إليه بسرعةِ
اختتمت الجلسة في الساعة السابعة صباحا (الثالثة بعد الظهر بتوقيت موسكو) باتخاذ القرار 660 بالإجماعِ صوت مع القرار 14 عضوا (امتنع ممثل اليمن عن التصويت بسبب عدم توفر تعليمات له من حكومته حسب تصريحه)ِ
بالتالي حدد مجلس الأمن في اليوم الأول من الأزمة موقفه منها وصاغ مطالبه تجاه بغدادِ وكانت الفاعلية التي بدا عليها مجلس الأمن تتناسب مع حالة الطوارئ ذاتها التي وجدت فيها دولة صغيرة نفسها ضحية عدوان سافر ومباشر ولم يكن بوسعها مواجهة العدوان وواجهت خطر احتلال أراضيها بالكاملِ وكان من غير المسموح به التمهل في مثل هذا الوضعِ وأكد مجلس الأمن بأنه رد بالفعل على العدوان وبسرعة وبصورة مماثلة وأدى واجبه الملقى على عاتقه حسب ميثاق الأمم المتحدةِ وثمة حقيقة بسيطة ساعد انتهاء 'الحرب الباردة' الأمم المتحدة في انبثاق "'نفس ثان' وولد المقدمات لإنجاح رسالتها الرئيسية المتمثلة بالسهر على مصالح السلام الدولي والأمن العالميِ
وبما أنهم سيشيرون في المستقبل مرارا إلى القرار رقم 660 في الأمم المتحدة وخارجها، فمن الضروري النظر إليه: أعرب مجلس الأمن في مقدمة القرار عن قلقه من العدوان العراقي المسلح على الكويت ووصفه كخرق فاضح للسلام والأمن الدوليِ وكما نرى فهو وصف واقعي وموضوعيِ وجاء كذلك في بنود القرار بأن مجلس الأمن: 1 ـ يستنكر عدوان العراق على الكويتِ 2 ـ يطالب العراق بسحب جميع قواته الى المواقع التي كانت تشغلها في 1 أغسطس 1990 بلا تأجيل وبلا قيد أو شرطِ 3 ـ يدعو العراق والكويت الى البدء بمحادثات مكثفة من أجل تسوية خلافاتهما ويؤيد كافة الجهود في هذا الصدد وبالأخص الجهود التي قامت بها جامعة الدول العربيةِ 4 ـ تقرر عقد جلسة جديدة إذا اقتضى الأمر لأجل النظر ومتابعة تنفيذ هذا القرارِ
أعتقد بأنه حتى أكثر التفسيرات تعنتا لن تستطيع كشف مبادئ سياسية مفرطة في هذا القرار أو تعمد لإثارة رد فعل بغداد برفضهِ بل على العكس، حافظ على لهجة لبقة الى حدها الأقصى والمطالب الموجهة الى بغداد في حدها الأدنى: إعادة القوات الى مواقعها السابقة ِِ فحسبِ وأخيرا يتضمن القرار نصيحة طيبة تعطي بغداد مخرجا لائقا وحتى رشيقا من الوضع بالإشارة الى الجلوس خلف طاولة المباحثات، لا سيما ان مجلس الأمن وجه نداء مماثلا الى الكويت، بالرغم من أن إجراء المحادثات من قبل الكويت كجانب منكوب بعد العدوان العراقي مسألة محرجة سياسياِ
وفتحت الإشارة المتضمنة في القرار الى تأييد المجلس لجهود جامعة الدول العربية في دورها أمام بغداد قناة للتسوية الملائمة، إذا كانت أهدافها منصبة على الأراضي الحدودية والأموال فقطِ
وكان على العراق في أي حال من الأحوال القيام بخطوات جوابيةِ ولكن بغداد تجاهلت القرار، وحتى لم توقف تقدم قواتها في العمق الكويتي وسارت قدما لاحتلال البلد بأكملهِ
الاتصالات الدبلوماسية
لنعد الآن الى موسكو في 2 أغسطس نفسهِ
استدعيت ظهرا الى وزارة الخارجية السفير العراقي غافل جاسم حسينِ أولا، سلمته بيان الحكومة السوفيتية لنقله الى بغداد ورفقت معه بعض التعليقات: وصفت أعمال العراق كعدوان عسكري ونوهت بأن لهجة بياننا اللينة لا ينبغي أن تفسر بعدم استعدادنا لإعطاء التقدير المستحق علنا لهذه الأعمال في المستقبلِ وأشرت الى ضرورة انسحاب القوات العراقية بلا تأجيل وإعادة السيادة الكويتية بالكاملِ
ثانيا، أحلت الى السفير نص نداء القيادة السوفيتية الى الرئيس العراقي صدام حسينِ وأعرب فيه عن القلق العميق والأسف للعدوان العراقي المسلح ضد الكويتِ وفي غضون ذلك وصف هذه الأعمال كمخالفة صارخة للقانون الدوليِ وسلط البيان الضوء على العواقب الوخيمة الناجمة عن هذا الفعل على المستوى الدولي، آخذين بنظر الاعتبار حضور الأساطيل الأجنبية الى الخليجِ وأعرب فيه عن الأمل في أن العراق سيكف عن استعمال القوة العسكرية ضد الكويت وسيتخذ قراره المعقول الوحيد وهو سحب قواته من الكويت بلا تأجيل وبلا قيد أو شرط واللجوء الى حل المسائل المتنازع عليها بالطرق والآليات المعروفة في مثل هذه الأحوالِ وجاء في النداء ان الاتحاد السوفيتي مستعد لإبداء المساعدة في هذا الاتجاه، شرط أن يعاد الوضع كما كان عليه قبل كل شيءِ
ثالثا، لفت نظر السفير الى قرار مجلس الأمن المتخذ توا وأشرت الى أن الاتحاد السوفيتي صوت لصالحه وأنه يعبر عن وجهة نظرنا عن الحالة الناشئةِ وقلت للسفير إننا ندعو العراق للامتثال لهذا القرار والعمل على تنفيذه ورفضه يعتبر خطوة خطيرة، لا سيما انه يتطابق بشكل كامل مع البند السابع لميثاق الأمم المتحدة مع كل العواقب الحقوقية والسياسية المبنية على أساسهِ
رابعا، تناولت مع السفير مسألة إمدادات الأسلحة السوفيتية الى العراق وأكدت له انه في الظروف الراهنة طرح السؤال حول إمكانية استمرارها وأن الأمر ستناقشه الحكومة السوفيتية بجدِ وأعربت عن الأمل في أن القيادة العراقية ستأخذ بنظر الاعتبار هذه المسألة خلال تحديد موقفها من قرار مجلس الأمنِ
خامسا، طرحت قضية تأمين سلامة المواطنين السوفيت القاطنين في الكويت معربا عن أملي في أن حكومة العراق وقيادتها العسكرية ستتخذان كافة الإجراءات الضرورية لتحقيق ذلكِ
وأكد السفير انه سيطلع قيادته فورا على ما دار بينناِ وحاول الإثبات بدوره ان القوات العراقية دخلت الكويت بمطلب من المعارضة الكويتية التي هبت، كما زعم، ضد النظام الحاكمِ وأنه قد تشكلت في الكويت حكومة حرة جديدة وهي التي توجهت الى العراق بطلب مساعدة وأن القوات العراقية ستنسحب حال أن تستتب الأوضاعِ أجبته اننا سنستمر باعترافنا بتلك الحكومة التي كانت تحكم في الكويت حتى اليوم الراهنِ وأفهمته بوضوح أننا لا نثق بثبات الرواية التي تزعم بوجود معارضة توجهت من أجل الحصول على 'مساعدة'ِ وافترقنا عند هذه الجملةِ
ولا أظن انه كان يشعر بالارتياح النفسي وهو يعد البرقية العاجلة الى بغداد التي يعرض فيها موقف الاتحاد السوفيتي من عدوان بلاده على الكويتِ
ولم تنته أحداث اليوم الأول من الأزمة بذلك عندنا، فقد برز تطور هام: اقترح علينا الأميركان عقد لقاء عاجل وقصير بين بيكر وشيفرنادزه في موسكو في 3 أغسطس في طريق عودة وزير الخارجية الأميركي من منغوليا الى الولايات المتحدة وكذلك نشر بيان سوفيتي - أميركي مشترك خاص بالكويتِ
ولدت فكرة هذا اللقاء لدى الأميركان في موسكو وأخبر بها بيكر الرئيس بوش باتصاله الهاتفي من أولان باتور وحصل على استحسان رئيسهِ ولا أخفي أنه لحظتها كان ينتابنا بعض الترددِ فقد كان هناك قرار مجلس الأمن وأعلنت موسكو وواشنطن على انفراد بياناتهما الحكوميةِ وبدا أن هذا كان كافيا في البدايةِ ومن جهة أخرى، لم يبحث هذا الموضوع في إركوتسك تقريبا وتجلت الآن بوضوح أهداف العملية واسعة النطاق وثمة بالتالي مسألة بحاجة الى تبادل الآراءِ
في النهاية، أمر شيفرنادزه بعد أن تحدث بالهاتف مع غورباتشوف بتهيئة اللقاء ومشروع البيان المشتركِ وتم تكليف مساعد الوزير سِ تراسينكو ممثلا لطرفنا ودنيس روس، أحد أقرب الأشخاص لبيكر والخبير في شؤون الشرق الأوسط والذي وجد نفسه في تلك اللحظة في موسكو، ممثلا للطرف الأميركيِ
ولد البيان المشترك بمخاض عسير، لأن الأميركان كانوا يميلون الى استخدام كلمات وعبارات لاذعة من شأنها أن تعقد حوارنا مع بغداد في المستقبلِ وكان من الواجب الحفاظ على قناة الاتصال هذه في إطارها العامِ
وافقنا على المسودة الخامسة فقط وأبدينا موقفنا الملخص بأننا سنذود عن مصالحنا في الشرق الأوسط ولا يمكننا الانطلاق وفق المصالح الأميركية بالكاملِ ولهذا السبب أطلق بيكر في مذكراته الكثير من السهام نحو 'المستعربين في وزارة الخارجية السوفيتية'ِ
عددت في كتابه عشرين صفحة على الأقل وبمختلف الأسباب ملاحظات غير راضية بهذا الصدد مثل 'عناد المستعربين السوفيت' و'عواطفهم'، كما زعم، الموالية لصدام حسينِ
والتقيت في 3 أغسطس من جديد بالسفير الكويتي عبد المحسن يوسف الدعيج وأخبرته بالخطوات التي اتخذها الاتحاد السوفيتي من أجل إنهاء العدوان العراقي: بيان الحكومة وقرار إيقاف إمدادات الأسلحة وتصويتنا في مجلس الأمنِ وقد عرف السفير ذلك من صحف الصباح، بل سمع لأول مرة عن حديثي الذي دار أمس مع السفير العراقي وعن مضمون نداء القيادة السوفيتية الى صدام حسين شخصياِ
أبلغته كذلك أن السفراء السوفيت حصلوا على تعليمات كاملة بشأن تشكيل رأي عام واسع بغية التأثير على بغداد لغرض دفعها لتنفيذ قرار مجلس الأمن بلا تأجيلِ وحدثته عن لقاء شيفرنادزه المقبل مع بيكر واحتمال إعلان بيان مشترك الذي كما نأمل سيساعد المجتمع الدولي لحث العراق على سحب قواته بأسرع وقت من الكويتِ
شكر السفير من صميم قلبه الاتحاد السوفيتي على موقفه العادل والموضوعي، غير أنه لم يكن يشعر بالتفاؤل من آفاق التغلب السريع على الأزمةِ وأوضح موقفه لأول مرة بأن الجانب الكويتي مع الرأي الداعم لفكرة أن الحصار الاقتصادي وحظر تصدير النفط العراقي بالكامل ستكون أكثر الإجراءات فعالية للتأثير على بغدادِ
وبعد الحديث مع الدعيج، جاء دور السفير العراقي غافل جاسم حسينِ وبالاتفاق مع الوزير أبلغته أيضا عن وصول بيكر واحتمال صدور بيان سوفيتي - أميركي مشترك وأعلمته أنه قد ظهر في مجلس الأمن مشروع (غير رسمي حتى الآن) بإصدار قرار يفرض عقوبات اقتصادية واسعة على العراق في حالة عدم تنفيذه قرار مجلس الأمن القاضي بسحب القوات المسلحةِ وأشرت الى أنه تزداد في مجلس الأمن الرغبة لصالح اتخاذ مثل هذا القرار وقد يتخذ في غضون ال 48 ساعة القادمةِ لذلك سيعمل أي تهاون وتأجيل في سحب القوات العراقية من الكويت لصالح صدور قرار العقوباتِ
لا حل سريعا
لنلاحظ أن الاتحاد السوفيتي أراد حل الأزمة بوسائل غير عسكريةِ وينحصر في هذا معنى لقاء اليوم مع بيكرِ ولا ينبغي تجاهل احتمال نشوء وضع ستلجأ عنده الولايات المتحدة الى القوةِ
وتلخص جوهر كل ما قيل في أمر واحد: يجب أن تنصرفوا من الكويت في أسرع وقتِ ووعد السفير بإطلاع بغداد حالا على نتائج حوارناِ ولم يكن لديه أي شيء جديد بالنسبة لناِ
في الحقيقة لم نبن آمالا خاصة على حل سريع وسهل للأزمة بعد أن كشفت بغداد من خلال تصريحاتها وتفسيراتها في بغداد والأمم المتحدة عن حقيقة نواياها حيال الكويتِ فقد وقع كل البلد عمليا تحت الاحتلال العراقيِ ودلت البرقيات الواردة من السفارة (يقصد السفارة السوفيتية في الكويت ولم يحددها سهوا على الأرجح) على أن الاجتياح كان مفاجئا وبلا أي استفزاز من الجانب الكويتيِ وكانت التأكيدات العراقية حول اندلاع الثورة الكويتية وتأسيس حكومة جديدة التي عجلت من دخول القوات العراقية، كما يزعمون، لمساعدتها، ليست سوى كذب مكشوفِ
لم يكن لكل هذه التطورات، إلا أن تنعكس على لقاء رئيسي دائرتي السياسة الخارجية السوفيتية والأميركية المنعقد في مساء 3 أغسطس في المطار الموسكوفي " فنوكوفو - 2 "ِ وأوضح شيفرنادزه وبيكر في كتابيهما أفكارهما وانفعالاتهما ولم يتطرقا الى محتوى أحاديثهما بصدد الواقعة نفسها في هذه المرحلة المبكرة والهامة والحرجة جدا للأزمة والتي أرسى فيها الأساس للتعامل السوفيتي - الأميركي معهاِ وإن حدد كل من الطرفين موقفه المبدئي ومطالبه تجاه بغداد بشكل مستقل تماما، فإن اللقاء في مطار " فنوكوفو " مكن من المقارنة بين هذين الموقفين وعملية تبادل المعلومات وأوضح نوايا بعضهما البعض بصدد الأزمة والاتفاق على التعامل ومقاييسه واتجاهات الجهود الرئيسية لدعمهِ وكما يشهد بيكر بنفسه، حصل شيفرنادزه منه على تأكيد بخصوص عدم وجود نية للولايات المتحدة للجوء والانتقال الى الأعمال الحربيةِ وقد يحدث استثناء واحد، إذا اقتضى الأمر، لإنقاذ مواطنيها على وجه السرعة فحسبِ
وركز في البيان المشترك الخاص بنتائج اللقاء على الاهتمام بتنفيذ قرار مجلس الأمن 660 فوراِ وبرز عنصر جديد، بالإشارة الى ضرورة إعادة الحكم الشرعي في الكويتِ ووجه الى بغداد الإنذار بأن 'المجتمع الدولي لا يستطيع التسليم بالعدوان أو أن يساعده'ِ
وشدد شيفرنادزه في المؤتمر الصحافي المنعقد في المطار على هذا الإنذار بقوله: إذا لم ينفذ العراق قرار مجلس الأمن 660 فسيطرح في جدول أعماله مشروع قرار آخر يكون الأساس لاتخاذ الإجراءات المناسبةِ وأشار الى أنه لا توجد للاتحاد السوفيتي خطط للتدخل العسكريِ
وأريد هنا التوقف عند مسألة، فقد حدد بيكر في مذكراته مواقف الطرفين والإعداد للقاء الذي تم على النحو الذي ذكرناهِ وأعطى الانطباع بأن قرار إيقاف إمدادات الأسلحة الى العراق جاء بفضل الدبلوماسية الأميركية التي بذلت، كما زعم، قصارى جهدها لحث الاتحاد السوفيتي على الموافقة لإصدار البيانِ ولم تنبس شفتا بيكر بحقيقة أن الاتحاد السوفيتي اتخذ قرار عدم توريد الأسلحة من طرف واحد وأعلنه قبل يوم من لقاء 'فنوككوفو - 2'ِ وإذا استند الاتحاد السوفيتي على منطق الأشياء في اتخاذ قراره هذا، فعلى مصدري الأسلحة الآخرين الاحتذاء حذوهِ ولم تنحصر القضية في أن القرار كان رسالة الى الآخرين، بل في أن القرار بقي بدون رد فعل منهمِ ولهذا السبب طرح شيفرنادزه أمام بيكر موقف فرنسا التي تعتبر البلد الثاني بعد الاتحاد السوفيتي من حيث إمداد العراق بالأسلحةِ وبعد أن أعطى بيكر ضمانات بأن باريس سترد إيجابيا على البيان، أكد أن مبعوثا أميركيا قد أرسل في مهمة مماثلة الى المورد الثالث من حيث الكمية وهو الصينِ وبعد هذه التأكيدات رفع القوسان من الفقرة التي تضمنتها مسودة البيان السوفيتي - الأميركي المشترك والموجه الى البلدان الثالثةِ
وطالما عرجت على مذكرات جيمس بيكر، فلابد الإشارة الى مسألة هامة وقد تكون متحيزة ( أو متصنعة ) عندما كان يظهر وزير الخارجية الأميركية على طريقة ال " شو " الأميركية بأنه المخرج الرئيسي للأحداثِ وقولي هذا ليس للاستخفاف ولا لتقليل دور الولايات المتحدة بالمرة، فقد كان فاعلا وكبيرا ورئيسيا في بعض النواحيِ وكان بيكر يعمل في الكثير من الحالات بنشاط ودقة، وكما يقال فإنه جدير بالثناء والمديحِ غير أن سلوك الدول الأخرى إزاء الأزمة الكويتية بهذه الصورة أو تلك لم يكن متطابقا مع إرادة واشنطن، بل اتخذت مواقفها مع ما تمليها مصالحها الخاصة ورؤية بلدهاِ ويخص هذا الكيفية التي تعاملت بها موسكو مع مجريات الأحداثِ وضع لقاء " فنوكوفو - 2 " حيث تم الاتفاق على إجراء مشاورات سوفيتية - أميركية وثيقة خاصة بأزمة الكويت، البداية لسلسلة طويلة ومكثفة للاتصالات التي جرت في موسكو وواشنطن ونيويورك وكذلك من خلال تبادل الرسائل والاتصالات الهاتفية بين رئيسي الدولتين ووزيري الخارجيةِ ويكفي القول أن 11 اتصالا هاتفيا تمت بين شيفرنادزه وبيكر جرت في أغسطس 1990 وحدهِ وكان علي في هذه الناحية وبصورة رئيسية أن أجري الاتصالات مع سفير الولايات المتحدة في موسكو جاك ميتلوكِ
(يتبع)
الحلقة الخامسة:
ما جرى في الغرب والعالم العربي

كلمة مندوب العراق

لكن ما أذهل بالفعل أعضاء مجلس الأمن كانت الكلمة الجوابية لممثل العراقِ أوردها بالكامل تقريبا بسبب إيجازها (وترجمتها من اللغة الإنكليزية) جاء فيها : 'يتلخص موقف حكومة بلدي فيما يلي:
أولا، تعتبر الأحداث الجارية في الكويت شأنا داخليا يخصها وليس للعراق علاقة بهاِ
ثانيا، توجهت حكومة الكويت المؤقتة الحرة الى حكومتي بطلب المساعدة في إحلال الأمن والنظام لكي لا يضطر الكويتيون للمعاناةِ واضطرت حكومتي الى تقديم مثل هذه المساعدة على أساس الطلب المذكورِ
ثالثا، تعلن حكومة العراق بشكل قاطع أن ليس لديها أطماع في الكويت وترغب في بناء علاقات حسن جوار معهاِ
رابعا، سيحدد الكويتيون بأنفسهم مستقبلهم في نهاية الأمرِ وستسحب القوات المسلحة العراقية فورا بعد استتاب النظام الذي يعد مطلب حكومة الكويت المؤقتة الحرةِ ونأمل أن ذلك سيتحقق خلال أيام أو بضعة أسابيعِ
خامسا، كما نعلم، تم إسقاط الحكومة الكويتية وهناك الآن حكومة جديدةِ وبناء على ذلك لا يمثلها الشخص الذي يشغل هنا مكان الكويت ولا يمكن أن تسري تصريحاتهِ
من اليسر ملاحظة أن أيا من تأكيدات ممثل العراق الواردة أعلاه لا تمت بأي شكل الى الحقيقة: لم يكن هناك إسقاط للحكومة الشرعية من قبل كويتيين ولا طلب مساعدة من قبل حكومة الكويت الحرة لأن مثل هذه الحكومة غير موجودة ببساطةِ ولا توجد حاجة لتوفير الأمن والنظام في الكويت لأنه لم يخل أحد بالنظام ولم يهدد الأمنِ ولم تكن ثمة حاجة لإنقاذ الكويتيين من المعاناة، لأن كل بلد كان يحسد ظروف الحياة في الكويتِ ولم يتمكن، بالطبع، إثارة أي شيء سوى الضحك، ما ذكر في البداية بأن أحداث الكويت ليست لها علاقة بالعراقِ
غير أن التناقض الأكبر، لم ينحصر في كذب البيان العراقي، بل في دعاية بغداد الرسمية التي بدأت بعد عدة أيام وبرهنت على شيء مخالف تماما وهو، أن كل شيء يجري في الكويت هو شأن عراقي داخلي فالكويت هي جزء من العراق الواحدِ وأزاح العراقيون ستر الدخان التي كانوا ينفثونها في الأمم المتحدة مثل 'أن حكومة العراق ليست لها أغراض في الكويت 'وأنها ' ترغب في بناء علاقات حسن جوار مع الكويت'ِ
لقد وقعت تصريحات ممثل العراق على أعضاء مجلس الأمن كالكرب، وسقطت في الحال.