الأحد، 12 يونيو 2011

الكرملين وأزمةالكويت (9)

يعود بنا سير الأحداث الى موضوع العقوبات الاقتصادية التي انحصرت مهمتها في اغلاق قنوات تصدير النفط لغرض منع بغداد من التمتع بالمصدر الرئيسي لايرادات العملةِ وكان النفط يصدر قبلا، بثلاثة خطوط أنابيب: العراقي ـ التركي، حيث تتم اعادة شحنه بواسطة ناقلات النفطِ والخطان الآخران يؤديان الى السعوديةِ
أغلقت أنقرة الخط فورا بعد فرض العقوبات الاقتصادية من مجلس الأمن، بينما تأخرت السعودية قليلا في اتخاذ اجراء مماثل، خشية اعطاء العراق حجة لدخول أراضيهاِ ولكن بعد أن وصلت القوات الأميركية اليها أوقف العمل في خطي الأنابيبِ
وفي النتيجة بقي للعراق طريقة واحدة لنقل النفط بواسطة ناقلات النفط عبر الخليجِ وقرر الاستفادة منها حتى لو خرق نظام العقوباتِ فقد خرجت خمس ناقلات عراقية في أواسط أغسطس محملة بشحنات النفط الى الخليجِ لم يعرف اتجاهها ولكنه افترض أن يكون ميناء عدن اليمني موقع توقفها الأولِ ومهما كان الأمر، فقد برزت تلقائيا ماهية رد الفعل العراقي، حيث أهمل القرار 661 الذي فرض العقوبات الالزامية والاجراءات والتدابير الواجبة لتنفيذهِ ولم يكن تقصيرا من جانب مجلس الأمن، لأنه لم يرغب في القفز على الأحداث والتهديد باستخدام القوة مفترضا أن بغداد لم تخرق العقوبات عن عمدِ غير أن الأحداث أخذت بالتطور حسب سيناريو آخرِ أقلق الأمر مجلس الأمن بما في ذلك الاتحاد السوفيتيِ لذا احتلت مسألة مراعاة العقوبات المكان المناسب في المحادثات التي جرت في موسكو مع عضو مجلس قيادة الثورة ونائب رئيس وزراء العراق سعدون حمادي الذي وصل توا الى العاصمة الروسيةِ
كان حمادي أحد مؤسسي حزب البعث في العراقِ ودافع عن أطروحة الدكتوراه في الاقتصاد الزراعي من جامعة فيسكونس الأميركية ودخل مبكرا في المحيط المقرب لصدام حسين شاغلا مختلف المناصب في الحكومةِ وكان لوقت ما وزيرا للخارجيةِ وكانوا يكلفونه دائما بتمثيل مصالح البلد في الندوات والمحادثات المختلفة، آخذين في الاعتبار خبرته الكبيرة كدبلوماسي واقتصاديِ وصل الى موسكو بعد أن زار عددا من العواصم محاولا اقناع محدثيه في شرعية ضم الكويت وعدم عدالة العقوبات المفروضة على العراقِ
قبلوا في موسكو زيارة حمادي بجد يحدوهم الأمل في أنها ستساعد في توضيح واعطاء أفكار أدق عما يدور في عقلية بغداد والأهم البحث عن حل للأزمة والحيلولة دون تفاقمهاِ أجرى شيفرنادزه الحديث مع حمادي خلال ثلاث ساعات وحضرته كاملا، الأمر الذي يمكنني من التحدث عن بعض الانطباعات عما جرى به وكيفية ادارته وما حمل من نتائجِ
الانسحاب دون خسارة
تحدث شيفرنادزه طوال الوقت بلهجة محترمة وخاصة وأشار منذ البداية الى اننا كنا نقدر على الدوام العلاقات مع العراق حق التقدير ونعمل كثيرا من أجل تطويرها (أورد الأرقام والوقائع) وأردنا مواصلة هذا النهج فيما اذا تلغى العقبة في طريق ذلك وهي ضم الكويتِ لم يخف الوزير أي شيء وقال بصراحة ان السبب الرئيسي لتفاقم الحالة هو العدوان المسلح على الكويت الذي أعطى كل الأسس لتوسيع الحضور العسكري الأجنبي المكثف في منطقة الخليج، الأمر الذي يعارض المصالح السوفيتيةِ وأشار الى أن النزاع العربي ـ الاسرائيلي تأثر هو الآخر بعد انسحابه الى الظل بعد الاعتداء على الكويتِ وقال الوزير انه ينبغي الاستعجال لحل المشكلة حيث الوضع يتفاقم باستمرار وأن ما يمكن التوصل اليه اليوم، سيكون أصعب بكثير غداِ وأعرب عن ثقته بأنه من الممكن الآن الخروج من الأزمة بدون أن يخسر العراق وقيادته سمعتهماِ فاذا أظهر العراق استعداده للانصراف من الكويت فسيسقط الأساس لوجود تلك القوات التي لم تكن في منطقة الخليج من قبلِ وأعرب الوزير عن ثقته بأن انسحاب القوات سيكون الحل الأكثر معقوليةِ
كان رد حمادي مخيباِ واستبعد كليا امكانية أي حل يمس بوحدة الكويت والعراقِ وكان يسهب في موضوع العلاقات بين العراق والكويت، مؤكدا انه لا يمكن مقارنتها بالعلاقات بين الدول الأخرى، لأن الكويت، كما زعم، كانت على الدوام جزءا من العراق الذي لم ولن يعترف باستقلالها أبدا ولذا لا ينبغي التحدث عن العدوان لأن العراق لم يتعد على حدود دولة أجنبيةِ وكانت هذه الأقوال تتناوب مع الاتهامات 'بأن الكويت كانت تحيك منذ بداية الحرب العراقية ـ الايرانية المؤامرات' وبأن 'المملكة العربية السعودية والامارات والكويت كانت تعد الخطط لاسقاط النظام في العراق' وأن 'السعودية كانت الحلقة الرئيسية للمؤامرة' (ومع ذلك لم يمنع الاتهام الأخير حمادي من التأكيد بأنه لا توجد للعراق نوايا عدوانية ضد السعودية وأن بغداد مستعدة لضمان أمنها)ِ
وحاول حمادي كذلك تركيز الاهتمام على التباين بين مصاعب العراق الاقتصادية وازدهار الكويتِ ورد شيفرنادزه على ذلك مستشهدا بالأرقام قائلا ان مستوى معيشة السوفيت أدنى من مستوى معيشة الألمان واليابانيين الذين حاربهم الاتحاد السوفيتي وأن هذا لا يمكن أن يكون سببا لاعتدائنا على هذين البلدين الأغنى مناِ
وأعرب حمادي أكثر من مرة وفي مختلف المناسبات عن عدم موافقة بلاده على نهج الاتحاد السوفيتي في مجلس الأمنِ واضطر وزيرنا لأن يشرح له في كل مرة بأن أفعال العراق لم تبق للاتحاد السوفيتي خيارا آخرِ ومهما حاول حمادي أثناء اللقاء تغيير موقف الاتحاد السوفيتي من جوهر الأزمة الكويتية فإنه لم يستطع بلوغ الغاية المبتغاة ولم يبلغهاِ
أظن ان هدف الزيارة الرئيسي انحصر في دفع الاتحاد السوفيتي الى السير في طريق تخطي العقوبات الاقتصاديةِ فبعد أن ذكر لنا عن الديون العراقية للاتحاد السوفيتي، أبدى الاستعداد لتغطيتها خلال سنة ونصف السنة بامدادات النفط العراقي الفورية المكثفة والبدء بعلاقات اقتصادية واسعة النطاق ووثيقة بما في ذلك في مجال السياسة النفطيةِ وأكد حمادي في غضون ذلك، ان عددا كبيرا من الدول، كما زعم، قد دخل في اتصالات مع بغداد لمناقشة مسائل شراء النفط العراقي وكان الصف الأول من طابور الراغبين قد اصطف وقد يتأخر الاتحاد السوفيتي اذا أبطأِ وردا على سؤال شيفرنادزه: أين سيقع عرض الجانب العراقي الخاص بالنفط من نظام العقوبات المفروضة من قبل مجلس الأمنِ أجاب حمادي بشكل مميز: 'ان هذه مشكلتكم'ِ ورد عليه شيفرنادزه بثبات ان الاتحاد السوفيتي صوت الى جانب القرار الخاص بالعقوبات وسيراعيه بلا اعوجاجِ
وعاد شيفرنادزه عدة مرات خلال حديثه الى مسألة الرهائن الأجانب في العراق والكويتِ وحاول الوزير اقناع حمادي بأنهم 'فقدوا الكثير لدى الرأي العام العالمي من الناحية السياسية والمعنوية'ِ وأنه لن يأتي توزيع الرهائن على المنشآت العسكرية والمواقع الأخرى بنتائج عملية، لأن الأمر لو وصل الى الحرب فإنهم سيفعلونها بلا احتراسِ ونصح شيفرنادزه بتغيير النظرة الى الرهائن بشكل جوهري ورفع المشكلة سيكسب العراق المنفعة بدون شكِ وقيل ردا على هذا بأن أحدا ما لم يضطهد الأجانب وأن الرئيس صدام حسين أمر بانزالهم بأحسن البيوت وأنه تقدم اليهم أفضل الخدمات التي لا تقدم الى العراقيينِِِ الخِ
كان حمادي يتصرف ويتحدث بثقة ودلت بعض آرائه على المزاج الرائق في بغداد ومبالغتها الواضحة في تقدير امكاناتها الخاصةِ
اقوال سخيفة
وبدا لي أن ادوارد شيفرنادزه أجرى الحديث حتى بلطف مفرط وكأنه لا يلاحظ بعض الأقوال غير اللبقة وحتى السخيفة للضيفِ وأشار الوزير في ختام الحديث الى أن الحالة معقدة ونتائجها قد تنذر بعواقب وخيمة وغير متكهن بها والى ضرورة البحث عن حل سلميِ وأبدى استعداده لتفعيل الاتصالاتِ وقال اننا سنبعث الى بغداد والعواصم العربية سفير المهمات الخاصة ميخائيل سيتينكو ونحن على استعداد لارسال أشخاص على مستوى آخر وقبول الممثلين العراقيين في موسكو أيضاِ
أجرى حمادي مباحثات مع نائب رئيس الوزراء بيلوسوف حيث دار الحديث بشكل رئيسي حول المسائل الاقتصاديةِ فقد جمد فرض العقوبات الكثير من أشكال التعاون ومن المهم لكلا الجانبين التفاهم المتبادل بصدد ما حدث ومناقشة مراحل تنفيذ بعض العقود وما ينتج عن ذلك لكلا الطرفينِ
واحتلت مسألة اجلاء خبرائنا من العراق نظرا لتفاقم الوضع فيه حيزا هاما في الحديثِ
وكللت اقامة حمادي في موسكو باستقبال رئيس الوزراء السوفيتي نيكولاي ريجكوف لهِ عرض رئيس الحكومة السوفيتية من جديد موقف بلادنا المبدئي من مسألة ضم الكويت وأكد نية الاتحاد السوفيتي على مراعاة نظام العقوبات بصرامة وأعرب عن أمله في أن ينفذ العراق قرارات مجلس الأمنِ
وبمبادرة من الجانب العراقي، تم في 21 أغسطس لقاء آخر بين حمادي وشيفرنادزهِ لم يكن طويلاِ بدأ حمادي الحديث بقوله ان العراق سيتخذ موقفا مرنا من مسألة تحرير الأجانب المحتجزين، لكنه اشترط أن تترابط هذه المرونة بمرونة أخرى ستظهر حيال العراق (بعبارة أخرى أكد حمادي الموقف من الرهائن ومواصلة النية في استخدامهم كأداة ضغط)ِ
وردا على السؤال في ماهية هذه المرونة قال حمادي ان عليه أن يعود الى بغداد ويناقش ذلك مع قيادتهِ رد شيفرنادزه على ذلك بقوله ان جميع الشعوب شديدة الحساسية تجاه مشكلة الرهائن ودعا الى التفكير بدقة في مسألة تحرير جميع المحتجزين ونصح العراق بأن لا يضع نفسه بمواجهة مجلس الأمنِ
والمسألة الأخيرة التي تناولها حمادي هي القرار المعد في مجلس الأمن الهادف لتوطيد نظام العقوبات الذي يعطي الحق في ايقاف وتفتيش أية سفينة تتوجه من والى العراقِ وكان حمادي يصر على أن الاتحاد السوفيتي لا ينبغي له أن يسمح باتخاذه قائلا ان هذه التدابير لا سابق لها و 'ستؤدي للحرب لأن ذلك سيتسبب حتما بالمصادمات العسكرية'ِ وشرح قائلا: 'نحن لسنا من تلك الفئة التي تسمح بخنقها وسنعمل كل ما بوسعنا من أجل احباط قرار العقوباتِ وسيفشل هذا القرار لأن أكثرية الدول أقامت اتصالات مع العراق وصرحت بأنها ستشتري نفطنا'ِ رد شيفرنادزه فعلا على هذا الخليط من الطلبات والتهديدات على النحو التالي: بغض النظر عما اذا اتخذ مجلس الأمن القرار المذكور أو لم يتخذه فان ناقلات النفط العراقية ستوقف في كل الأحوال من قبل قوى التحالفِ وعلى العراق أن يحدد على عجل موقفه من الشيء الأهم وهو عدم تنفيذه لحد الآن موضوعا واحدا من القرار 660 ولم يقم بخطوة واحدة للمقابلةِ وزد على ذلك انه يتحدى من جديد مجلس الأمن بارسال ناقلات النفطِ
وأشار الوزير الى أن الاتحاد السوفيتي غير معني بتسريع اتخاذ القرارِ غير أن موقف العراق لا يعطي خيارا آخرِ يمكن تأجيل القرار يوما أو يومين، لكنه بدون أن يحدد العراق موقفه على عجل في المسألة الأهم فإن المصادقة على القرار لابد منهاِ
وقال حمادي في ختام الحديث: 'وضعنا القرار في الزاوية وسيضطرنا للدفاع الذاتي عن أنفسنا ولا نريد أن يفرض شيء علينا'ِ
في 23 أغسطس أخبر سفير العراق نائب رئيس الوزراء بيلوسوف ردا على توجهنا بصدد الأجانب بأن الرئيس صدام حسين وافق على رحيل جميع الأجانب من البلد باستثناء مواطني الولايات المتحدة وألمانيا الاتحاديةِ
للأسف كل ما قاله السفير كان تضليلا، ليس بالنسبة للمواطنين السوفيت فحسب، بل لمواطني البلدان الأخرى أيضاِ سيبقى مواطنونا وباقي الرهائن ثلاثة أشهر أخرى أداة للتخويف الصفيق والسمسرة السياسيةِ
في قلب الخارجية السوفيتية
انحصرت المهمة الرئيسية في الاتجاه الأميركي في استبعاد الحل العسكري (توقف كل شيء هنا على بغداد) أو تأجيله على الأقل الى أقصى حد، على أمل أن تثوب بغداد الى رشدهاِ وكسب الوقت حتى اجلاء مواطنينا من العراقِ
وبما أن بغداد كانت تضع مجلس الأمن أمام ضرورة الرد الفعلي واتخاذ القرارات الجيدة والجديدة، فإن الاتصالات الوثيقة والتعاون بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة لم يكونا حاجة ماسة فحسب، بل كانا يستجيبان لمصالح كلا البلدين أيضاِ
وكنا نبذل الجهود الكبيرة لكي يجري حل كافة المسائل المبدئية المتعلقة بالأزمة في اطار مجلس الأمن ولن يعطى التزام ما لواشنطن أو التحالف المناوئ للعراقِ وكانت الاتصالات مع الأميركان تتم دائما بواسطة البعثات الدبلوماسية في موسكو وواشنطن ونيويورك وكذلك بين وزيري خارجية البلدين بالهاتف وعن طريق الرسائل المتبادلة واللقاءات الشخصيةِ
وجرى العمل مع جميع البلدان العربية بغض النظر عن موقفها من الأزمةِ والهدف الرئيسي هو تحفيز العرب على أن يبحثوا بنشاط بأنفسهم عن مخرج سلمي للأزمة وأن يضغطوا بشكل جماعي على بغدادِ وأيدت موسكو فكرة حل المشكلة في الاطار العربي وإن لم تثق جدا بهذه الامكانيةِ ووجه الاهتمام بالدرجة الأولى إلى العمل مع مصر وسوريا والسعودية ومنظمة التحرير الفلسطينية واليمنِ وكانت موسكو تستقبل بهمة الزوار العرب الكثيرين الذين استجابوا واهتموا بموقف الاتحاد السوفيتي والتعاون معه وخاصة في الخط الذي اتخذه الاتحاد السوفيتي لتقوية نفوذه في العالم العربي وبالأخص في قسمه الذي كان لوقت طويل مغلقا علينا: في الجزيرة العربيةِ وكانت الكويت كضحية للعدوان تلقى منا تأييدا سياسيا كاملاِ
وتمثل التفاهم مع بكين بالنسبة لموسكو بطابع خاص وجديد، حيث كفت الصين مثل الاتحاد السوفيتي عن تزويد العراق بالأسلحةِ وسهل اتفاق مواقف بلدينا أو قربهما، وضعهما في مجلس الأمن ومجموعة 'الخمس' الكبرىِ وكانت موسكو وبكين تتصرفان بشكل متشابه على امتداد أوقات الأزمةِ
كلام تافه
قرأت في مذكرات جيمس بيكر باستغراب أن شيفيرنادزه كان 'يتعارك خلال شهور عديدة مع مستعربي وزارته وحتى وقع تحت ضغطهم الهائل'ِ لا يمكن وصف هذا الكلام الا بالتافهِ أولا، لم يكن يتم هذا بموجب صلاحيات الوزير التي لا تقبل الجدل (وان كان وقت اعادة البناءِ لكن وزارة الخارجية تميزت دائما بالانضباط، زد على ذلك طبيعة شيفرنادزه التي لا تتقبل الضغط من أية جهة)ِ ثانيا، كان شيفرنادزه يحظى كسياسي ووزير باحترام كبير من موظفي الخارجية ولم يكن مستعربونا استثناء منهمِ وثالثا، لم تكن بين الوزير وبيني كنائبه المسؤول عن الاتجاه العربي وموظفي دائرة بلدان الشرق الأوسط حيث كان المستعربون يعملون، اختلافات في الآراء حول موقف الاتحاد السوفيتي حيال الأزمة الكويتية وبغداد بصفتها المذنب فيهاِ
وفي غضون ذلك، لم يكن بوسع الخارجية السوفيتية الا الذود عن مصالح بلدها القومية في الشرق الأوسطِ وبما أن هذه المصالح لم تكن أبدا متطابقة مع المصالح الأميركية في الاقليم، فإن الاختلاف في مواقف الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة من هذه الناحية أو تلك للأزمة الكويتية يخص طرق تجاوزهاِ وكانت موسكو تسير على نهجها الذي لم يرض واشنطن في ذلك القدر الذي أرادتهِ وأن استقلالية موسكو في شؤون الشرق الأوسط وضرورة البحث عن القرارات المقبولة لكلا الجانبين، كانت تثير صداع وزير الخارجية الأميركيِ وأعتقد ان انزعاج بيكر من مستعربي الخارجية السوفيتية نابع من هذه الأسبابِ
ونسب بيكر الى عدادهم يفغيني بريماكوف في مذكراته وأطلق عليه 'مستعرب وزارة الخارجية الرئيسي' (بلا أي أساس)ِ فلوزير الخارجية الأميركي حسابه الخاص مع يفغيني بريماكوف يريد أن يصفيه في كتابه ولكن هذه قصة أخرى بالمرةِ فقبل استقالة شيفرنادزه من منصب الوزير لم تكن لبريماكوف أية علاقة بوزارة الخارجية وان كان يؤثر على سياسة الكرملين في الأزمة الكويتية (وتم هذا بالفعل)ِ كان ذلك بفضل علاقته مع ميخائيل غورباتشوف فقط وليس بوزارة الخارجيةِ
وبرأيي، لم تظهر لدى شيفرنادزه في مراحل الأزمة الكويتية الأولى مشاكل مع غورباتشوف بصدد الممارساتِ ولمساعد غورباتشوف أِ تشيرنيايف في مذكراته اليومية في 21 أغسطس السطور التالية: 'كانت لدي مخاوف من أن ميخائيل غورباتشوف لن يوافق على شجب صدام حسين بشدة ولكني أخطأت لحسن الحظِوكان شيفرنادزه في غضون ذلك يتصرف بحزم انطلاقا من روح التفكير الجديدِ وكان ينسق كل شيء بالهاتف مع غورباتشوف، ابتداء من الموافقة على لقاء بيكر في موسكو وعلى البيان المشترك معه'ِ
لقد صمت غورباتشوف نفسه مدة طويلة خلافا لغالبية زعماء العالمِ وأدلى برأيه علنا لأول مرة بعد أسبوعين فقط من بداية العدوانِ واليكم نبذة من كلمته في المنطقة العسكرية 'أوديسكي' في 17 أغسطس: 'لم يكن لدينا خيار آخرِ فإن استخدام القوة لاعادة تخطيط حدود الدولة وزد على ذلك ان هدف ضم بلد ذي سيادة له عواقب وخيمة وخطيرة على المجتمع الدولي برمتهِ ولا نستطيع الرد بغير ذلك لأن العدوان ارتكب بمساعدة أسلحتنا أيضا التي وافقنا على بيعها للعراق لأجل دعم قدرته للدفاع فقط وليس للاستيلاء على أراضي الغير ودول بأكملهاِ هذا غدر وخرق فظ للقانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة'ِ
وظهرت البوادر الأولى للاتفاق غير الكامل لمواقف الرئيس والوزير من كيفية تجاوز الأزمة في سبتمبرِ سنتحدث عنها فيما بعدِ

انشغال الخارجية بالقضية الكويتية

كان العمل الخاص بالأزمة يجري في دائرة واسعة جدا ومن قبل جميع المنظمات الدولية القادرة على التأثير على سيرها: حركة عدم الانحياز، منظمة المؤتمر الاسلامي، جامعة الدول العربية وغيرهاِ وكان الأمين العام للأمم المتحدة بيريس دي كويلار يستلم من موسكو دوريا معلومات عن الكثير من محادثاتنا مع العراقيين وتقديراتنا في اللحظة الجاريةِ وحاولنا توضيح موقفنا ووجهة نظر شركائنا بواسطة بعثاتنا الدبلوماسية وكذلك في موسكوِ وافترض ذلك تغذية سفاراتنا والمؤسسات الأخرى بتحليلات وتعميمات منتظمةِ ووقع النصيب الأكبر لهذا العمل على عاتق موظفينا في ادارة بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا التي كانت بمثابة الوحدة الرئيسية داخل وزارة الخارجية الملمة بكل متعلقات الأزمة الكويتيةِ وكانت الكثير من المسائل تعد سوية مع ادارة المنظمات الدولية وادارة الاعلام وادارة الولايات المتحدة وكندا وادارة بلدان الشرق الأدنى وغيرها من ادارات وزارة الخارجية الاقليميةِ وكان جهاز الوزارة يعمل بتنسيق ودقةِ وكان الوزير نفسه ومدير السكرتارية ايغور ايفانوف (وزير خارجية روسيا حاليا) يتابعان كل هذاِ
وكنت التقي في موسكو كل يوم تقريبا بممثلي السلك الدبلوماسي وفي الدور الأول بسفراء العراق، الكويت، الولايات المتحدة، بريطانيا، فرنسا، الصين، ايران وتركياِ والتقيت كثيرا كذلك بسفراء ألمانيا، ايطاليا، الهند ويوغسلافيا (كانت تترأس في هذا الوقت حركة عدم الانحياز) وجميع الدول العربيةِ وكانت طلبات الاستقبال تنهال علي لدرجة أنه لم يكن بوسعي الاستجابة لجميع الطلباتِ وفي هذه الحالة وبالأخص عندما كان الأمر مستعجلا كان نواب وزير الخارجية الآخرون يستقبلون السفراءِ وكانت الكثير من الاتصالات تجري مع رؤساء دائرة بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا (مع مدير الادارة فاسيلي كولوتوشا دائما)ِ وكان العمل كافيا للجميعِ
واضطر الوزير ادوارد شيفرنادزه بنفسه الانشغال كثيرا بالأزمة الكويتيةِ وكنا نساعده في ذلك قدر الامكانِ وكان الوزير يأخذ على عاتقه اتخاذ هذا القرار أو ذاك أو يسهل أو يسرع الأمورِ ومع ذلك كان يرسل المقترحات وآراء الوزارة في المسائل المبدئية الكبرى الى رئيس الاتحاد السوفيتي أو يناقشها معه بالهاتفِ
وساعد التفاعل العملي الحسن مع جهاز الرئيس السوفيتي (مع الذين يعملون بالوثائق الخاصة بالأزمة الكويتية وبالأخص مع أِ تشيرنيايف و فِ غوسينكوف) على حل الكثير من المسائل بسرعةِ
وورد موضوع الأزمة الكويتية مرارا في 'اجتماعات الاثنين' التي كان الوزير يعقدها مرة في الأسبوع ويبحث فيها مختلف المسائل الجارية والمستقبلية وسير اعداد الزيارات والمحادثاتِ وكان الوضع في هذه الاجتماعات ديموقراطيا وبوسع أي شخص طرح القضايا المقلقة أمام النقاش الجماعيِ