الأربعاء، 8 يونيو 2011

حسابات الوزير الذري

لم يقدم وزير الطاقة الذرية الروسية يفغيني اداموف استقالته كما اعلن الرئيس فلاديمير بوتين، بل ان الاخير اجبره على تقديم الاستقالةِ واعتبر كل المعنيين بالامر من سياسيين ونوويين ومراقبين ان بوتين لم يتخذ قرارا صائبا منذ توليه السلطة، كما فعل هذه المرة، فلماذا كان هذا الاجماع على اقالة واحد من اهم رجالات العهد السابق؟
توالي الخسائر
لقد فقدت روسيا في السنوات الاخيرة مئات الملايين من الدولارات بفضل جهود المسؤولين الذريين و'ابطال' هذه الخسائر كانوا وزراء الطاقة الذرية الثلاثة الذين كانوا يستبدلون بعضهم البعض بشكل دوريِ
فقد عرض الوزير فيتالي كونوفالوف الدولة للعقوبات 'المعادية' بسبب سياسة اغراق الاسواق العالمية باليورانيوم التي ادت الى فقدان روسيا لخمسة آلاف طن منه، الامر الذي جعل الكرملين يتدخل ويعيده الى منصب نائب وزير الطاقة فيكتور ميخائيلوفِ
وما ان جلس ميخائيلوف على الكرسي الذري، حتى قام بفرض تأسيس شركة على الاميركان فقدت روسيا نتيجة ذلك 250 مليون دولار (مجمدة حتى الآن في الولايات المتحدة) واتخذ الكرملين عقوبة مماثلة بوضعه نائبا للوزير يفغيني اداموف الذي الحق الدولة بخسارة تقدر ب 20 مليون دولار ما ان احس بالكرسي الذريِ
وتجدر الاشارة الى وجود علاقة طريفة في عقوبة الوزراء الذريين في روسيا وهي وضعهم كنواب للوزير بعد كل اقالة، غير ان بوتين خرق هذا التقليد واعطى اداموف ورقة توت فحسب بفرض الاقالة عليهِ
البنية التجارية
لوزارة الطاقة الذرية بنيتها التجارية الممثلة بالشركة المساهمة 'تيخسناب ايكسبورت' التي تعمل بالعقود الدولية وتراقب عمليات الدفعِ وكان قسم التجارة الخارجية في هذه الشركة ينتسب في الاوقات السوفيتيةالى وزارة التجارة الخارجيةِ
ففي عام 1972 تمت اول صفقة سوفيتية في سوق اليورانيوم بابرام عقد مع شركة 'كوجيما' الفرنسية، اخذ الجانب السوفيتي على عاتقه اجراء كافة الخدمات الخاصة بتركيز اليورانيوم وانتقلت 'تيخسناب' في عام 1988 الى وزارة الطاقة الذرية وبدأت منذ عام 1990 ببيع اليورانيوم (الطبيعي والمركز) بما في ذلك السوق الاميركيةِ
وشعر الاميركيون بالقلق بالرغم من امتلاكهم احتياطيا كبيرا لليورانيوم وانذروا الاتحاد السوفيتي لخرقه التوزان في سوق اليورانيوم بسبب سياسة اغراق السوقِ وحسب تقديرات الخبراء الغربيين كان من غير الممكن زيادة الكمية القصوى لليورانيوم المباع عن ستة آلاف طن في السنةِ
غير ان الوزير فيتالي كونوفالوف لم يعبأ بقلق الاميركان واجبر 'تيخسناب' لرمي قرابة 11 الف طن من اليورانيوم في السوق، الامر الذي ادى الى انخفاض سعره بحدة ونتيجة لذلك حصل الجانب السوفيتي مقابل 11 ألف طن ما يمكن ان يحصل عليه لو باع 6 آلاف طن حسب الاسعار السابقة!ِ
عقد ال 12 بليونا
وفي يناير 1994 ابرمت 'تيخسناب' ووزارة الطاقة الذرية الروسية ومؤسسة صناعة الطاقة الذرية الاميركية عقدا وفقا للاتفاقية 'فوو - نوو' (اليورانيوم العالي التركيز - اليورانيوم المنخفض التركيز) وبموجب هذا العقد تخلص الولايات المتحدة روسيا من 500 طن من اليورانيوم العالي التركيز (الذي يستخدم للاغراض العسكرية) بتحويله الى يورانيوم منخفض التركيز (لاغراض الصناعة المدنية) مقابل 12 بليون دولارِ
ومن الواضح ان الفائدة المالية لروسيا والسياسية - العسكرية - الاستراتيجية للولايات المتحدة بينة، وهي عبارة عن عملية نزع السلاح النووي من طرف واحد وفي الوقت نفسه تعد العملية مكملة لمعاهدات تخفيض الاسلحة الاستراتيجية الهجومية بين البلدين، على ان لا يبقى لدى الطرفين فائض من اليورانيوم الحربي، ومن الممكن استخدامه في اي وقت للانتاج النووي وبسرعة كافيةِ
غير ان الاميركيين بعد ان وضعوا برنامجا دقيقا آخذين بعين الاعتبار ارباحهم وارباح الطرف الروسي نسوا 'اهم شيء' وهو: عمولات المسؤولين الروس التي لا يمكن التنبؤ بمقدارها ابدا!ِ وبعد تسوية بعض الخلافات الفنية خلال لقاء فانكوفير تحت رعاية الرئىسين الاميركي والروسي وقع الوزير فيكتور ميخائيلوف ونائبة وزير الخارجية الاميركي ليندا ديفيس المناوئ الرئيسي لعقد 'فوو - نوو'ِ
لكن الجانب الروسي استطاع فرض انشاء مشروع مشترك على الاميركانِ ومن غير الواضح، من الذي كان بحاجة الى 'المشروع المشترك'، لكن الواضح فقط انهم لم يكونوا بالمرة يفكرون بمصالح الدولةِ
وبناء على ذلك، قدم الاميركان للطرف الروسي تنازلات في هذه المسألة وكانوا يركزون فقط على ازالة تركيز اليورانيوم الروسي بعد ابرام العقد!
تجدر الاشارة الى ان 35% تقريبا من سعر اليورانيوم منخفض التركيز هو بالذات الذي وضعه الطرف الروسي في حسابات جارية لمدة عشرين سنة (وليس من المعروف الفوائد من عملية تداول اموال في البنوك الغربية لمدة عشرين سنة)ِ
أما المشروع المشترك فكان شركة 'ماتيك' التي ستأخذ على عاتقها وظائف 'تيخسناب' كلهاِ لكنهم لم يستطيعوا تحقيق ذلك، بل اسسوا شركة GNSSِ وتملك 'تيخسناب' 51% من اسهم هذه الشركة والشركة الاميركية 'بلياديس غروب' ال 49% الاخرىِ وتنوي الشركة الاميركية الآن مقاضاة الطرف الروسي بسبب فقدان بليون دولار من ارباح السنوات الماضية اختفت بقدرة نووية!
وزير أعمال
لم يأخذ الجانب الروسي عند توقيع العقد المذكور في عين الاعتبار القوانين الاميركية، حسب اوقات الحرب الباردة، التي تحظر اعادة اليورانيوم المنخفض الى روسيا (الناتج من معالجة اليورانيوم الروسي المركز)، بسبب عدم وجود اتفاقية للتعاون في مجال صناعة الطاقة الذرية بين البلدينِ
واذا كانت هذه المشكلة موجودة قبل توقيع العقد فكيف لا يمكن وصف ظروف عقد الصفقة بالغريب والغامضِ فالذي حصل ان الجانب الروسي 'اهدى' اليورانيوم للاميركان! ومع ذلك حاول المسؤولين الروس الالتفاف على هذه المشكلة الحرجة باستخدام اتفاقية التداول الحر للمواد بين الولايات المتحدة والمكسيك وكنداِ
فكر يفغيني اداموف في هذا الموضوع خلال سنة كاملةِ وفي غضون ذلك ترسب اليورانيوم الروسي الى اجتماعات اللجان المشتركة لحل مسائل الديون بين الطرفينِ وقال الجانب الاميركي ان مبلغ 350 مليون دولار (سعر اليورانيوم الروسي المعالج) يمكن شطبه من الديون الروسيةِ ولم يكتفوا بذلك، بل قدموا طلبا آخر: تخفيض احتياطي روسيا الى 22 ألف طن بما في ذلك 10 آلاف طن من اليورانيوم 'المعلق' الذي لم يعد ملكا لروسيا عمليا!!
باختصار، استغل الاميركان ثمن خلو عقول المسؤولين الروس بمسؤولية الحفاظ على الثروات الوطنية واسرار البلاد وحرية التصرف بالخامات الاستراتيجيةِِ الخ وفي الوقت الذي ينبغي التعلم من الادارة الناجحة للاميركان لخدمة مصالح بلادهم، ينبغي ايضا ادراك موقف المسؤولين الروسِ
حامل الاسرار
لا يخفى على احد ان اداموف يحب الولايات المتحدة جداِ ويعرف المطلعون الوظيفة التي عرضوها عليه (في الولايات المتحدة) حالما اجبره بوتين على تقديم الاستقالةِ والمنصب الذي ينتظر اداموف هو المدير التنفيذي لشركة 'اوميكا' لصناعة الطاقة الذرية الواقع مقرها في مدينة مونروفيلِ (تجدر الاشارة الى ان اداموف كان احد مؤسسي هذه الشركة عندما كان وزيرا)ِ وكانت هذه الشركة قد باعت في عام 1996 للمعهد العلمي لأبحاث الاجهزة الكهربائية الذي كان اداموف يرأسه في ذلك الوقت اغطية ارضية وصمغا بمبلغ 34 الف دولارِ غير ان الامر لا ينحصر في ذلك، فهذه الشركة كانت تبيع لروسيا اشياء اكثر تفاهة وتحصل من روسيا مقابل ذلك احدث وسائل التكنولوجيا الذرية الروسية!! ويحصل في النتيجة ان الوزير اداموف يتاجر مع رجل الاعمال اداموف!! وعلى سبيل المثال كانت نقود 'أوميكا' تودع في حساب بنك PNC في بنسلفانيا حيث توجد حسابات وزير الطاقة الذريةِ
من المفهوم ان هذا البيزنيس اقلق فلاديمير بوتين كثيراِ فالمسألة لا تتعلق بسرقة او غسل اموال او شيء آخر، فأي شيء مقدور عليه، لكن شخصيات مثل اداموف تضطر للسفر من الحين للاخر لمتابعة اعمالها الخاصة، ومثل هؤلاء يحملون كل اسرار روسيا النوويةِ لهذا ليس من المستغرب تحير اجابة اداموف في المؤتمر الصحفي الذي عقده بعد الاستقالة عندما وجه له السؤال المتعلق بتورطه بالتجسسِ فاذا كان سؤال الصحافي انحصر في معرفة اسباب سفر اداموف الى ولايته المفضلة بنسلفانيا بشكل دوري 'بدون اذن' فان جواب اداموف انحصر في انه لا يحب الشكليات الرسمية وحصل على تأشيرة دخول وسافر بجوازه العادي كمواطن (!!)ِ ولكنه وزير الطاقة الذرية الروسية، ولا بد لشخص بمثل هذا المقام الالتزام بالقواعد المقرة، كأن يحيط الحكومة التي هو عضو فيها علما ب 'جولات البيزنيس' التي يقوم بهاِ واذا كان جوازه عاديا فهل يجعله ذلك شخصا عاديا؟ أليست غامضة نتائج جولة حامل اسرار الدولة العلياِ
واخيرا، كان يفغيني اداموف مديرا للمعهد العلمي لأبحاث الاجهزة الكهربائية ونائبه فيكتور اورلوف يزوران في الفترة من 1992 الى 1998 مرارا ايران ويجريان محادثات لا علاقة للهيئات الرسمية بهاِ وكانت المباحثات تتركز على بناء مفاعل يعمل بالماء الثقيل ومركز ابحاث علميِ وكانت ايران تأمل في نجاح هذه الصفقة التي تمكنها من انتاج البلوتونيومِ ولكنه عندما عرفت الولايات المتحدة باتصالات اداموف بالايرانيين، كان الوقت قد مضى واصبح اداموف وزيرا للطاقة الذريةِ ولم يعبأ حتى لأمر بوريس يلتسين بوقف هذه الاتصالات، فقد كان الاخير نزيلا دائما للمستشفى كما هو معروف ويعاني من مشكلات في الذاكرةِ
بمعنى ان وزير الطاقة الذرية السابق يفغيني اداموف كان يجري المباحثات السرية مع ايران بشأن امدادها بالتكنولوجيا النووية حتى قبل توليه الحقيبة الوزاريةِ
هل جرت كل هذه الامور بالصدفة؟
كانت هذه الامور تجري لوحدها عندما كانت روسيا بلا رئىس والنيابة العامة لم تهتم بمصالح الدولة واكثر ما كانت تتمناه البقاء على قيد الحياة من هجمات الكرملين وسعي المخابرات للانتصار على النيابة العامة ومجلس الدوما مريض وعقل البلاد مشلول بالازمة الاقتصاديةِ لذلك لم يهتم احد بأداموف ولا بغيرهِ