الثلاثاء، 7 يونيو 2011

ماذا سيفعل الغرب بدون يلتسين؟

ربما يستغرب البعض اذا عرفوا انه كان للرئىس الروسي السابق الكثير من الاصدقاء الحميمين بين زعماء الدول الاكثر نفوذا في العالم: بوش، كلينتون، كول، شيراك، هاشيموتو، وغيرهمِ وكان يلتسين يقضي معهم وقتا سارا في اللقاءات العديدة غير الرسميةِ
وتزداد الغرابة عندما نقارن بين العواطف الجياشة المعبر عنها في رحلات الصيد وفي حمامات الساونا وبين تلك المساعدات التي يقدمونها لروسيا والتي كانت في وقت يلتسين حاجة ملحةِ لم يكن الرئيس الاميركي ينادي الرئيس المكسيكي سيديليو بالصديق ارنستو، لكنه عندما اجتاحت المكسيك ازمة مالية في عام 1994 حصلت فورا من الولايات المتحدة والدول الغربية الاخرى على مساعدات مالية اكبر بكثير من التي حصلت عليها روسيا لثماني سنوات من الصداقة الرقيقة مع رئىسهاِ
والآن، حيث ابتعد بعض اعضاء هذه الرفقة الودية (كول وهاشيموتو) وفيما ينفق الآخرون (كلينتون بالاخص) الكثير من الوقت لحل مشاكلهم الخاصة وتحول يلتسين الى متقاعد، حان الوقت لاجمال نتائج هذه الصداقة التاريخيةِ
لم يكن بوريس يلتسين اول زعيم روسي (سوفيتي) يقيم اتصالات مع زعماء الغرب، لنتذكر مثلا ان تقسيم اوروبا ما بعد الحرب العالمية الثانية جاء بفضل العلاقة القوية بين ستالين وتشرشل وروزفلت الذين انجزوا العملية مباشرة على الغطاء الورقي لمائدة الغداء في يالطا، وكان نيكيتا خروشوف يحب الدبلوماسية غير الشكلية، وليونيد بريجنيف صحب معه وزير الخارجية الاميركي هنري كسينجر لرحلة صيد في زافيدوفو واستلم في رحلته الى الولايات المتحدة سيارة كاديلاك فاخرة كهدية شخصيةِ
عموما، كانت الدبلوماسية غير الشكلية تصاحب دائما العمل الرسمي في اعقد القضايا الدوليةِ ومع ذلك لم يصل الامر لغاية إقامة علاقات شخصية دافئة، لا في وقت الحرب الباردة ولا في عهد غورباتشوف، كانت الحواجز السياسية والايديولوجية تفصل بين المتحاورين مهما كان الاحترام والعواطف المتبادلةِ
صداقة داخل السلطة فقط
وبعدما انتصر يلتسين على غورباتشوف واصبح رئيسا لروسيا المستقلة، بدأ الساسة الغربيون البحث عن طرق للاتصال غير التقليدي مع الزعيم الجديد واصبحوا واحدا تلو الآخر اصدقاءه، لكن هذه الصداقة كانت سرعان ما تتلاشى حال انسحابهم من المضمار السياسي، نتذكر مثلا صداقة يلتسين مع جورج بوش وحزام الكابوي الذي اهداه الرئيس الاميركي لنظيره الروسي بمناسبة عيد ميلادهِ
وما ان حل كلينتون بدله نسيت هذه الصداقة وبدأ الغرام العاصف مع الصديق بيلِ
اسلوب الصداقة الشخصية كان يقترحه يلتسين في كل مرةِِ ولم يتكيف زعماء الغرب مع اسلوبه وسلوكه الغريب احياناِ
فمثلا عندما حضر مراسم سحب القوات الروسية من برلين عام 1994 اخذ يلتسين يغني ويرقص ويقود فرقة اوركسترا الجيش وكان كول قربه رابط الجأش كأن كل ضيوفه يتصرفون على هذا النحو، وادرك زعماء الغرب ان سلوك يلتسين يلزمه كي يمني عزة نفسه الضائعة ويدعوه الى مختلف لقاءات القمة الغربية (السبع بالاخص) وبدأوا يفعلون ذلك من الناحية الشكلية ولم ينفذوا الوعود الهامة التي قطعوها له في هذه المناسبة او تلك، لقد وعدوا في قمة طوكيو خلال قمة السبع عام 1993 وفي اول لقاء حضره يلتسين بان يمنحوا روسيا 6ِ43 بليون دولار، ووعد كلينتون خلال لقائه بيلتسين في هلسنكي بتقديم 15 بليون دولار، ولم يفوا بالوعدين، ولم تتحول الدول السبع الى ثماني بالمفهوم العملي، كما رغب خيال ساسة الكرملين، ولم يتحرك الامر في انضمام روسيا لمنظمة التجارة العالمية، وان اكد الزعاء انفسهم على استعدادهم لتنفيذ ذلك خلال السنوات الثلاث الماضية، ولم ترفع الولايات المتحدة حواجز وقوانين جينيز وفينك التي تقيد التعامل التجاري مع روسياِ وفي غضون ذلك، كان يلتسين يرد على وعودهم بوعود جوابية يحقق الكثير منهاِ لا نقصد الوعود الكلاسيكية بعدم العودة الى الوراء والرجوع عن الاصلاحات، بل الحلول الوسط حول قضايا استراتيجية مهمة، مثل سحب القوات الروسية من المانيا ودول البلطيق، والتنازل الروسي في البوسنة في اكتوبر 1995، والموافقة على توسيع حلف الاطلسيِِ
الرهان على الشخص
وكان الغربيون يميلون الى اعتبار اهتمام قادتهم بحالة يلتسين الصحية دليلا على تردي العلاقة الروسية ـ الغربية، وتبين خلال السنوات الاخيرة انه كلما ترددت هذه العلاقة ازدادت العواصم الغربية (وبالاخص واشنطن) عزما على المراهنة على يلتسين شخصيا، باعتباره الرجل الذي يستطيعون بواسطته حل التناقضات الموضوعيةِ
ولغاية آخر يوم في حياة يلتسين السياسية كان البيت الابيض يعتبره 'عند حسن ظنه'، وان لم يكن على ما يرامِِ فبفضل تدخله الشخصي تم حل قضايا خلافية اساسية مثل توسيع الناتو والازمات العراقية المتلاحقة وقضية بيع التكنولوجيا الصاروخية والنووية الى ايرانِ وكانت كل الحلول السابقة 'ترضي واشنطن'ِ
العودة الى التجاوب
واشارت 'واشنطن بوست' الى انه 'عندما ينبغي اعطاء دفعة حاسمة لايمانع يلتسين في اصدار اوامره لوزرائه للعمل بما يريده كلينتون، ونقلت عن مصادر مسؤولة في الادارة الاميركية قولها : 'ان الزعيم الروسي يتجاوب (مع طلب اميركا) عندما يتوجب عليه ان يختار ما يمكن ان يوقع الغبن باميركا وبين استمرار المساعدات المالية الغربية'ِ
ولكن بالقاء نظرة الى المستقبل الذي ينتظر روسيا بعد يلتسين، فان البيت الابيض لا يراه مشرقاِ علما ان الاوساط الحاكمة في واشنطن طالما حذرت من 'التبعية الاستراتيجية لشخص لا بد ان يموت'، على حد تعبير 'واشنطن بوست' التي لا يمكنها التصور حتى الان ما يمكن ان يحدث بعد رحيل السيد يلتسين فجأة'ِ
مساوئ الضغط الاميركي
وهذه المخاوف ليست مقصورة على من يريد ان يرى في موسكو 'رئيسا يستجيب لطلبات الغرب'، بل ان هناك في واشنطن ساسة يعتبرون هذا 'التجاوب' يشكل خطرا على مستقبل العلاقات الروسية ـ الاميركية ومستقبل روسيا الديموقراطيةِ ويرى هؤلاء ان 'الضغط الدبلوماسي الخفيف على حاكم الكرملين' صيغة سيئة للغاية وفاسدة للشراكة الحقيقية المفروض ان تكون قائمة بين الولايات المتحدة وروسيا، وان ما يقدمه الكرملين من تنازلات آنية للبيت الابيض يمكن ان يترك آثاره السلبية على الحركة الديموقراطية في روسيا، ولو لسبب واحد هو ان البيت الابيض يضطر للعمل على 'تحصين' سمعة يلتسين بصفته حاكما اوتوقراطيا مطلقا لا يبالي برأي البرلمان والحكومة وليس زعيما ديموقراطيا!ِ
الخط الساخن
وكان لهذا المثل تفسير مزدوجِ فعندما تواجه واشنطن معوقات تتعلق بروسيا يسارع كلينتون الى ابلاغ الكرملين بما يعوق اميركا بالهاتف عبر 'الخط الساخن' فيحرمه 'القيصر'، بغض النظر عن رأي البرلمان والحكومة ووزاراتهاِ
واحيانا كان البيت الابيض يتصور ان يلتسين غير مسؤول عما يجري مع بلده، حيث تعثر الاصلاح الديموقراطي وسيطرت البيروقراطية الفاسدة واصحاب الاموال على السلطة من منطلق انه لا يعرف ِِ ولو عرف!
مثلا، عندما انطلقت الفضيحة في موسكو بعد انكشاف امر الرسالة التي بعثها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي الى الحكومة الروسية وتضمنت ما اعتبروه في روسيا انذارا ووعيداِ ففي واشنطن لم يفسروا هذه الفضيحة بانها مفتعلة من قبل اصحاب البنوك ليطيحوا بحكومة بريماكوف، بقدر ما فسروها على انها حملة تشنها موسكو لابتزاز واشنطن، اي ان سياسة العصا والجزرة لا تمارسها المؤسسات المالية الغربية تجاه موسكو بل ان موسكو تمارسها ضد واشنطنِ وعلى الخط الساخن تتلقى واشنطن الرد التالي من موسكو: 'اذا لم تساعدونا فان سلطة يلتسين ستسقط، وهو الوحيد الذي يضمن الاستقرار في روسيا'ِ
النفط والخشب ويلتسين!
وهذه الرواية وان كانت لا تغالط الحقائق، الا انها ليست عارية من الصحة جملة وتفصيلاِ فامكانات روسيا للحفاظ على الاستقرار محدودة ومقصورة على العائد الناتج من تصدير النفط والغاز والخشب ويضاف اليها يلتسينِ وبغيابه فان ارتفاع اسعار النفط والغاز يعتبر العامل الوحيد الان الذي يبعد المساءلات لحكومة فلاديمير بوتين التي لم تعمل شيئا ولم تنفذ أية خطوة بناءة في المجال الاقتصاديِ
وهذه المحدودية تضر في النهاية بمصالح الغرب ايضاِ لان تخلف روسيا الاقتصادي وتبعيتها هما وعاء تنبثق منه الرجعية والعدوانية للغربِ وهو ما يدركه الساسة الاميركيون الذي ينظرون الى مستقبل العلاقات من منظور اوسع من الذي يحصر العلاقات بين 'الصديق بيل' و'الصديق بوريس'ِ
واشار سياسي اميركي بارز الى ان 'الاعتماد على يلتسين كمورد لللكمات الدبلوماسية المعسولة وغض النظر عن رفضه ـ بمحض ارادته ـ للعمل لصالح نظام لا يرتهن برئيس يشبه القيصر يمثلان استراتيجية قصيرة النظر لا سيما وان هذه (الحلويات) لا بد ان تختفي مع اختفاء صاحبها'ِ
وهذا ما يفكر به الساسة الامناء على مصالح بلدهم الذي كان يلتسين يزودهم، بالكعكة الدبلوماسيةِ كما انهم يفطنون الى ما يدور في خلد الروس الذين لم يحصلوا من يلتسين حتى قطعة صغيرة من هذه الكعكةِ
بوتين والامتحان
ومنذ اعلان يلتسين استقالته امضى الكثير من اعضاء مجلس الشيوخ والنواب والخبراء الاميركان اسبوعا شبه كامل في مناقشة السياسة الداخلية والخارجية والاقتصادية التي ستنتهجها روسيا في عهد بوتينِ
والاهتمام الاميركي بروسيا يعود لكونها تمتلك السلاح النووي ولخوفهم من احتمال انتشار تكنولوجيا اسلحة الدمار الشامل دون حسيب او رقيب، ولانهم يفضلون الحوار لحل المشاكل المتصلة ببحر قزوين والصراع العربي ـ الاسرائيلي والازمات المتفرقة في العالم من البلقان حتى بغدادِ ويخيفهم ايضا ما تواجهه جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق من مشاكل واحتمال تفكك روسيا الاتحادية وتحولها الى بؤرة ضخمة لعدم الاستقرارِ
لا اموال
ولا ترى الولايات المتحدة مبررا لاعطاء روسيا بدون يلتسين مزيدا من الاموال على اساس ان هناك من سيضع يده عليها، غير انها مستعدة لحل مشكلة اعادة جدولة الديون المستحقة على روسيا ضمن شروط ترتبط ب'حسن سلوك' قيادتها الجديدةِ
ولا ينتظر ان يقبل الاميركيون على استثمار اموالهم في روسيا، على الاقل قبل الانتخابات الرئاسية في مارسِ ولن تسمح الولايات المتحدة لروسيا الا بتصدير ما تحتاجه هي من كمية محدودة من الصلب والاسمدةِ
وسيستمر حلف الاطلسي بالتوسع على الرغم من المعارضة الروسية وان دارت عجلة التوسع ابطأ مما كان متوقعاِ وسيقيم الاميركيون منظومة واسعة من الصواريخ المضادة للصواريخ على الاراضي الاميركية، لكن واشنطن تفضل ان يتم الاتفاق مع موسكو على تعديل معاهدة الحد من الصواريخ المضادة للصواريخِ
'العائلة' باقية
وادرك الخبراء الاميركيون في مناقشاتهم السرية والعلنية الاخيرة بان كل مسؤول يمكن تغييره في روسيا بعد رحيل يلتسين لكن الشيء الوحيد الذي لا يتغير هو ما اطلق عليه 'العائلة' التي تحكم الكرملينِ
وواشنطن لا تريد ان تتعامل مع رموز هذه 'العائلة' لان سمعتهم متدنية في الداخل وفي الخارجِ فالمشرعون الاميركيون ينظرون الى اعضاء 'العائلة' كجماعة من المفسدين لا يهمهم الا بقاؤهم، وليسوا ديموقراطيينِ وهذه مسألة في غاية الاهمية سيضعها فلاديمير بوتين بنظر الاعتبار في حالة تفكيره اجراء انقلاب ضدهم وهو انهم لا يمتلكون 'محامين' في واشنطنِ
لكن بوتين هو الآخر غير مرشح لاختطاف اعجاب الغرب، وخاصة بسبب تاريخه في المخابرات ومحاولته عسكرة روسيا، ونسفه حقوق الانسان في القوقاز، وبوادر الهجوم على الحقوق والحريات المدنيةِ
ومما له دلالته ان مجلة 'تايم' وضعن مقطعا من تصريح محافظ بطرسبيرغ السابق اناتولي سابتشاك الذي قال فيه ان بوتين تلميذه وليس برجل ال'كي جي بي' وضعته في ركن الاقوال المضحكة!
وهكذا فان عصر الصداقة الشخصية التي كانت جزءا من السياسة الخارجية الذي يسمى بدبلوماسية الزعماء بدأ يغوص في اعماق الماضي سوية مع رائده بوريس يلتسينِ